لا فاقدين ولا مفقودين
تعودنا كل عام مع بداية أشهر الخيرات رجب وشعبان أن نردد الدعاء المأثور.. اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين.. لكن لا أدري لماذا هذه المرة استوقفني هذا الدعاء وتأملت فيه كثيراً.. في بداية شهر شعبان.. لكن تلك التأملات أدركت مغزاها ومعناها وسببها.. إنه ألم الفقد وتجرع وانكسار أمام فقد أخي وابن عمي الأصغر الذي أتذكر يوم ولادته بتفاصيله كما عشت يوم وفاته بكل تفاصيله.. شاب في ريعان شبابه وحيويته وأمله في الحياة.. رزق بزهرتين جميلتين سجدة وساندي.. مكونا مملكته الصغيرة.. يسعى على رزقه بكل دأب وأدب وخلق رفيع.. لم أذكر مرة رفعه صوته.. أو اعتراضه.. أو شكوى منه.. بل عاش هادئا بساما.. نبيلا راقياً.. وقبل أن ينتصف شهر شعبان بليلة.. كانت النهاية المرة الصعبة.. لقد استيقظ في جسده النحيل "القاتل الصامت".. نعم لم يشكو من مرض من قبل قط.. ولكن فجأة وبلا أي مقدمات.. .انخفاض حاد وسريع ومروع في صفائح الدم.. تشخيص مبدئي بخلايا نشطة كثيفة في الدم.. ساعات طرقنا فيها كل الأبواب بحثاً عن سبيل لمواجهته.. لكنها النهاية السريعة.. صدمة كبيرة.. ألم الفقد وتجرع مرارته.. ويا لها من عجائب الدنيا.. .ونحن في غرفة الغسل وتحضير الجنازة.. صورته طفلا معلقة على الحائط.. بينما هو أمامنا جسدا قد فارقته الروح.. صدمة وتفكر.. طفلتيه تسبحان بين أمواج بشرية جاءت لتقدم لعائلتنا واجب العزاء.. تلعبان.. تلهوان.. لا تدركان حجم ما فقدتاه.. لكنني أتأمل في وجهيهما.. وأسأل نفسي ماذا ستحمل لهما الحياة.. هل حُق لنا أن نقلق عليهما والله سبحانه وتعالى متكفل بهما.
إن من بين صدمات الحياة تلك الأقدار التي يخبئها لنا القدر.. نعم كل شىء يمر، تلك حقيقة مؤكدة، لكن قبل أن يمر: يأخذ معه طاقة كبيرة، وبعض من الروح، والعمر.. وهنا أتذكر لقائي الأخير بإبن عمي حين تحدثت إليه وهو على فراشه في يومه قبل الأخير الجمعة الماضية، جلس يحدثني وزوجته وأحبابه اللذين التفوا حوله، وكأنه وداعا أخيرا بعدما تبادلنا دمعات الألم، ثم تبسم كعادته ضاحكا مستبشرا، وكله أمل في شفاء ينجيه، لكن مرارة حقيقة مرضه التي ربما لم يكن أدركها، كانت سببا في عدم تملكي كامل طاقتي حين واجهته، وربما كذلك حين ودعته.
وهنا أتذكر قول الشاعر:
كم من حزيـنٍ لا ترى في وجهه
إلاّ الـرِّضـــا وفَـــؤادهُ يتمَـــــزّقُ
ولَكَـمْ بَشـوشٍ لو خَبِرْتَ حياتَـه
لعرفتَ أهلَ الصبرِ كيف تخَلّقوا
ما كلُّ مَنْ ذَرَفَ الدموعَ مُعـذَّبٌ
أو كلُّ من تلقاهُ يضحـكُ يصدقُ
هـي قصّــةٌ أدرى بهـا أصحـابُهـا
والله أعلــمُ بالقلـــوب وأرْفَــــقُ