بين الحرب والهجرة.. أين ذهب الرجال في سوريا؟
«أين ذهب الرجال؟».. سؤال يدور في ذهن المتجولين بشوارع دمشق ووسائل النقل، بعد نظرة فاحصة لسوق العمل والجامعات السورية، لاكتشاف حضور نسائي طاغٍ، وهو المشهد الذي أفرزته الحرب وذكّته عوامل الهجرة الخارجية.
وأدى الصراع المستمر منذ 12 عامًا في تغيير بنية المجتمع السوري، مما قد يعود إلى وفاة الكثير من الرجال في الحرب، أو هجرتهم بأعداد كبيرة، بالإضافة إلى ارتفاع معدل حوادث الانتحار بسبب التداعيات الاقتصادية والنفسية للمعارك، وأصبحت أعداد الإناث في المجتمع السوري تتجاوز أعداد الذكور.
نسبة النساء في سوريا نحو 60% من عدد السكان.. وكل رجل في سوق العمل يقابله سبع نساء
وتبلغ نسبة النساء في البلاد نحو 60% من عدد السكان، وفق مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية، لوكالة أنباء العالم العربي، والذي قال: «لاستمرار الحياة في البلاد خرجت النساء للعمل، لذلك نلاحظ أن نسبة كبيرة من العاملين هم نساء. كل رجل في سوق العمل يقابله سبع نساء»، متوقعًا أن ترتفع النسبة خلال السنوات القادمة لتصبح كل عشر نساء مقابل كل رجل.
مهندسة المعمارية: «ممن سأتزوج؟.. لم يتبق رجال في مدينتنا»
وخلفت الحرب في سوريا أزمات كثيرة لا تزال تتفاقم، من بينها تراجع الإقبال على الزواج، وكشفت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل سلوى عبد الله في 2021 أن عزوف الشباب عن الزواج أدى لارتفاع نسبة العنوسة لأعلى مستوياتها لتتخطى حاجز 70%.
«ممن سأتزوج؟».. هكذا تتساءل المهندسة المعمارية سوزان (33 عامًا) التي تعيش في بلدة الدريكيش الريفية الصغيرة الواقعة في محافظة طرطوس الساحلية. وتقول لوكالة أنباء العالم العربي: «لم يتبق رجال في مدينتنا». وأضافت «لا نرى سوى وجوه لشهداء ارتقوا في الحرب تكسو صورهم جدران الأبنية وأطراف الطرقات، ولا نسمع أصواتا ذكورية سوى من سماعات الهواتف بعد أن سافر معظم شبابنا».
أصابع خالية من خاتم الخطوبة والزواج
وبينما تتفحص أصابعها وأصابع الفتيات اللاتي يمررن بقربها، بحثًا عن خاتم الخطبة أو الزواج، تقول سوزان «الأصابع خالية، لا أحد على إصبعه خاتم، ومن تضع خاتما فهي من القليلات المحظوظات بعريس في حقبة النساء». وتشير إلى أنها سمعت خلال الفترة الماضية عن قبول عدد لا بأس به من فتيات القرى المجاورة لبلدتها الزواج من رجال متزوجين، وعبرت عن صدمتها عندما تفاجأت أن عريس صديقتها يكبرها بأكثر من 25 عاما.
وقال مصدر قضائي لوكالة أنباء العالم العربي إن 40%من طلبات تثبيت الزواج المقدمة يوميًا إلى القصر العدلي في دمشق هي لزيجات ثانية، وذلك في ظل الظروف التي نتجت عن الحرب خلال السنوات الماضية.
40% من طلبات تثبيت الزواج المقدمة يوميًا إلى القصر العدلي في دمشق هي لزيجات ثانية
وحول ارتباط الإقبال على الزواج الثاني بالأزمة التي تعيشها سوريا، أوضح قائلاً إن ذلك يعود لأكثر من سبب منها تأخر الزواج، أو ما يعرف بالعنوسة، ناهيك عن أن الكثير من الأسر فقدت عائلها ومعظم الرجال فيها.
لماذا تعدد الزوجات في سوريا؟
ويشير الخبير الاجتماعي نصري كيالي إلى أن «الحرب والاضطرابات التي نجمت عنها عززت ظاهرة تعدد الزوجات في البلاد». وأكد أن الحرب أدت إلى وجود فارق شاسع بين عدد الرجال والنساء «ولأن قانون الحياة قائم أساسا على الموازنة بين المصالح والمفاسد، تقبلت بعض النساء فكرة التعدد رغم سلبياتها». ولفت كيالي إلى أن عدم التوازن العددي بين الجنسين سيحمل في طياته آثارًا سلبية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية «وسيؤدي إلى تغيير بنية المجتمع السوري على المدى البعيد ويحوله من مجتمع فتي إلى مجتمع هرم».
أما عبد الله فهو واحد من السوريين الذين ضاقوا ذرعا بالأوضاع المعيشية المتردية في البلاد نتيجة الانهيار الاقتصادي وتفشي البطالة، ويرى أن الهجرة باتت «أمرا ضروريا لا مفر منه».
شاب سوري: مرتبي الشهري ومرتب زوجتي لا يغطيان مصاريف عائلتنا المكونة من طفلين لأكثر من ثلاثة أيام
ويقول عبد الله البالغ من العمر 40 عاما «أعمل اليوم محاسبا في إحدى شركات الاستيراد والتصدير بدمشق، إلا أن مرتبي الشهري ومرتب زوجتي لا يغطيان مصاريف عائلتنا المكونة من طفلين لأكثر من ثلاثة أيام، ولم أوفق في العثور على وظيفة أخرى مناسبة حتى اليوم».
ويضيف بنبرة متحسرة: «نحتاج شهريا إلى ستة ملايين ليرة (430 دولارا تقريبا) بالحد الأدنى، ثمن المستلزمات الأساسية فقط، كنت سابقا اضطر لبيع بعض القطع الذهبية التي اشتريتها لزوجتي، واليوم لم يبق لدينا ما نبيعه».
وتشرح زوجته مريم (35 عاما) أنها لا تمانع سفر زوجها على الرغم من أن الفكرة لم تكن واردة عندما اتفقا على الزواج قبل أربعة أعوام، وتشير إلى أن اثنتين من صديقاتها في العمل تعيشان التجربة ذاتها، حيث يسافر الزوج منفردا بسبب التكلفة الكبيرة لسفر العائلة بأكملها ويعمل في الخارج حتى يؤمن المال ويرسله لعائلته التي بقيت في البلاد.وتؤكد أن أسوأ راتب يمكن أن يتقاضاه زوجها في الخارج سيكون أفضل بعدة أمثال من الرواتب الهزيلة في سوريا، التي قالت إنها «بالكاد تكفي أجرة المواصلات فقط».
سعر صرف الدولار ارتفع من 47 ليرة عام 2011 إلى 14 ألف ليرة حاليا.. ونحو 90% من السوريين تحت خط الفقر
وحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر. وارتفع سعر صرف الدولار من سبعة آلاف ليرة سورية في بداية 2023 إلى قرابة 14 ألف ليرة حاليا. وفي بداية الاحتجاجات الشعبية في سوريا التي تحولت إلى حرب أهلية في 2011، لم يكن سعر صرف الدولار يتجاوز 47 ليرة.
ووفقا لتقديرات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، فإن أكثر من 15.3 مليون في سوريا بحاجة إلى مساعدة إنسانية، وهو أعلى عدد من المحتاجين منذ بداية الأزمة. وقالت المفوضية إن سوريا تضم أيضا أكبر عدد من النازحين داخليا في العالم، ويبلغ عددهم 6.8 مليون. وكشف تقرير حديث لبرنامج الأغذية العالمي أن 70%السوريين قد لا يتمكنون من توفير الطعام لعائلاتهم في ظل الأوضاع المعيشية الراهنة.