«غربة».. قصة قصيرة لعمر عبد الظاهر
«ما هذا الظلام؟ وما هذه الأشياء الصغيرة التي تحيط بي ولماذا أبدو مختلفا عنها.. ها! لماذا نتأرجح هكذا؟».. كانت هذه صيحاتي وأنا محشور وسط كمية من البذور وضعها فلاح في كيس بعد أن اشتراها من متجر لبيع لوازم الزراعة.
مضى بنا الرجل مسرعا إلى حقله وما إن وصل إلى هناك حتى تبدل الظلام نورا بعدما فتح الكيس لتقتحمه أشعة الشمس، مد يده العملاقة نحونا وقبض قبضة لم أكن فيها لكني شعرت بارتطام بعض المتساقطين من كفه نحو الكيس مرة أخرى، وما هي إلا دقائق حتى عاد لأخذ كمية أخرى، وفي الثالثة كنت من بين الراحلين عن الكيس إلى المجهول.
ليس مجهولا تماما.. الرحلة بدت واضحة بعد ألقاني الفلاح في حفرة طينية صغيرة رفقة آخرين وأهال علينا التراب لنعود لظلام أشد وطأة من ظلام الكيس الأول.
مرت مدة زمنية لا أعرف هل كانت دقائق أم ساعات وإذا بالأرض تميد من حولي ومن فوقي كأنه انهيار جبلي، لتتحول كتل الطين الجافة حولي إلى لزوجة غريبة بعد أن غمرها ماء دافق لا أعرف من أي الاتجاهات أتى.
التحول الطيني ضيق الخناق عليّ في حفرتي الصغيرة حتى لم أكد أرى رفاقي السابقين في كيس البذور، وفي الساعات اللاحقة بدأ شيء غريب يتحرك داخلي محدثا ألما يمزق الأحشاء، لم أستطع الصراخ فقد انشق جسدي النحيل عن ورقتين خضراوين يحملهما جذع نحيل متوجها بهما لما فوق الطين، ومن أسفل كانت جذوري تمتد كشعيرات صغيرة في أعماق الأرض.
شمس وهواء وقطرات ندى تتكثف فوقي كل صباح، هكذا بدت حياتي الجديدة مذ طفوت فوق الطين الذي تسكنه جذوري وتمتص منه ما يقوم صلبي ويدفعني إلى أعلى يوما بعد يوم.
مرت أيام ونشوة الحياة الجديدة لا تفارقني وتطلعي إلى أعلى لا يتوقف واندهاشي من اتساع مدى رؤيتي بشكل يومي يزداد مع كل سنتيمتر أصعده في فضاء الحقل. لكن بدأ شيء غريب يكسر نشوتي تلك ويجذب انتباهي بعيدا عن تطلعي نحو الأعلى.
لا شيء فيما حولي يشبهني.. كيف لم ألحظ هذا إلا الآن، كل من حولي متشابهون إلا أنا أبدو بينهم طويلا كطفل التحق بالمدرسة في سن الحادية عشرة وسط أبناء السابعة.
حيرتي وبحثي عن سبب الاختلاف لم تدم طويلا، حيث لم تمر أيام حتى سمعت حوارا بين الفلاح وابنه فسر لي الأمر.
- «أبي لقد كبرت نبتات الكمون التي زرعتها مؤخرا».
- «نعم، صحيح وقد ساعد تسميد الأرض على نموها بشكل صحي، يبدو ذلك من شدة الخضرة التي تكسوها».
- «لكن انظر هناك يا أبي.. ثمة شيء مختلف" أشار الصغير نحوي مضيفا: «ما الذي أتي بشجرة الذرة تلك وسط حقل من الكمون؟».
ضحك الأب، وأجاب: «هذه مفارقة غريبة.. تعرف يا علي أني بالأمس فقط كنت أستمع لقصيدة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي جوابات الأسطى حراجي، وقد استوقفني قوله على لسان حراجي مخاطبا زوجه فاطنة: (عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه؟.. عود درة وحداني في غيط كمون) وها قد رأينا ذلك رأي العين».
إذا أنا «عود درة وحداني في غيط كمون»، لكن ما المشكلة؟ لا يهم ما دمت أستمتع بالشمس والهواء وقطرات الندى الصباحية، فلا فرق عندي إن كنت ذرة أو حتى قرنفل.
مرت أسابيع قليلة وعودي يزداد طولا ويشتد صلابة حتى خرج من جنبي ما يشبه ذراعا صغيرة انتظمت على جوانبها بذور تشبهني حين كنت في الكيس في بداية رحلتي إلى الحقل.
كان هذا الشيء مؤرقا لي في البداية، إذ بدا شكله غريبا عن الأوراق المتراصة على ساقي، وشعرت أنه يؤرخ لمرحلة جديدة من عمري لم أكن أعلم أنها نهاية الرحلة.
في يوم صيفي حار جاء الفلاح وولده لحصاد الكمون من حولي، وبعد ساعات من العمل اتجه نحوي الولد الصغير وما إن وصل إليّ حتى طوقني بكفيه وظل يجذبني محاولا اقتلاعي من الأرض التي تشبثت بها جذوري، لكنه فشل.
فرك كفيه وعاود المحاولة، ومع شعوره بالإجهاد نادى بصوت مرتفع: أبي ساعدني يا أبي.. استيقظ يا أبي.. ساعدني.. استيقظ.. وما هي إلا لحظات حتى استسلمت جذوري تاركة الطين الذي ألفته لأسابيع ووجدتني أرتطم بالأرض منهيا رحلة الابتعاد عنها نحو الأعلى.
«آآه ذراعي» صاح محمود وهو يقوم من ارتطامة قوية على أرضية الصالة بعد أن جذبه صغيره محاولا إيقاظه من على الأريكة كما طلبت منه الأم التي كانت تعد الغداء في المطبخ.. تلفت حوله وقال مندهشا: «أين أنا؟ أين الكمون؟ أين الفلاح وابنه؟ هل كان ذلك مجرد حلم؟».