«خليجيون» خاص| لماذا تتمسك أوروبا بحلم الجيش الموحد؟
خلق النزاع في أوكرانيا إحساسًا متزايدًا بالعجز العسكري لدى القارة الأوروبية التي تهددها المخاطر من كل جانب، فضلاً عن الانسحاب الأميركي المرتبك من أفغانستان عام 2021، والشيخوخة التي ضربت حلف الناتو، وهو ما أوجد نقاشًا جادًا داخل الاتحاد الأوروبي لتشكيل جيش أوروبي موحد، فما مدى جدية الفكرة، ودلالة تكرار طرحها في وسائل الإعلام، وكل تعني تفكك المعسكر الغربي عسكريًا؟
يعتقد مراقبون أن الإحساس الأوروبي بالعجز أمام عالم متعدد الأقطاب، يغزيّه غياب الثقل ومحدودية التنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد، خاصة في السياسة الخارجية. لكن التحديات المستجدة تجعل التلكؤ الأوروبي في إيجاد مظلة عسكرية موحدة بديلة لحلف الناتو، الذي يؤثر في دينامياته الولايات المتحدة الأميركية، أمرًا حتميًا خلال الفترة المقبلة لترسيخ وجوده كلاعب رئيسي على الساحة الدولية.
ويخضع مشروع القوة الدفاعية للاتحاد للنقاش منذ عقود، لكن المواقف المتباينة داخل التكتل، إلى جانب انعدام سياسة خارجية أو حتى عسكرية مشتركة، أجّلت تحقيقه. وأمس الأحد، جدد وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاياني الحديث عن الدعوة إلى تشكيل «جيش مشترك» لمنع نشوب صراعات دولية وحماية مواطني الدول الأوربية حول العالم.
وأضاف «تاياني» في مقابلة مع صحيفة «لاستامبا الإيطالية»: «إذا كنا نريد أن نصبح حافظين للسلام في العالم، فنحن بحاجة إلى جيش أوروبي. هذا شرط مسبق أساسي ليكون لدينا سياسة خارجية أوروبية فعالة».
محاولة أوربية للابتعاد عن الوصاية الأميركية
دعوة يراها اللواء عادل العمدة المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية، محاولة أوربية جديدة للابتعاد عن الوصاية الأميركية في الناتو، مع تزايد التهديدات الروسية على القارة الأوربية رغم الوجود الأميركي.
وتابع الدبلوماسي الإيطالي: «في عالم يضم أطرافًا قوية مثل الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا، ويموج بأزمات تمتد من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيط الهادئ، لا يمكن حماية المواطنين الإيطاليين أو الألمان أو الفرنسيين أو السلوفينيين إلا من خلال كيان موجود بالفعل وهو الاتحاد الأوروبي».
خبير عسكري: تخلي الولايات المتحدة عن أوكرانيا وتركها فريسة للدولة الروسية حرك الهواجس الأوربية في مدى قدرة واشنطن على حماية مصالح أوروبا
وحول أسباب التفكير الأوروبي في الابتعاد قليلاً عن السيطرة الأميركية يقول الخبير العسكري في تصريح لـ«خليجيون» إن تخلي الولايات المتحدة عن أوكرانيا وتركها فريسة للدولة الروسية حرك الهواجس الأوربية في مدى قدرة واشنطن على حماية مصالح أوروبا.
وصعد التعاون الأوروبي في المجال العسكري على جدول الأعمال السياسي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يقترب من عامه الثاني. رغم ذلك، فإن الجهود أكثر تركيزًا على توسيع حلف شمال الأطلسي، إذ انضمت فنلندا، الدولة العضو في التكتل إلى الحلف العام الماضي، فيما وتنتظر السويد التصديق على انضمامها.
ويضيف مستشار أكاديمية ناصر أن الناتو تحول بعد اتفاقية القسطنطينة من الدفاع عن الأراضي إلى الدفاع عن المصالح، وأن دعوات فرنسية سبق طلب التحلل من الوصاية الأميركية وتعرضت باريس للعقاب من واشنطن بسبب مطالبها بالتحرك بعيدا عن العباءة الأميركية.
هيمنة أميركية على الناتو
فيما يؤكد اللواء محمد الغباشي أمين مركز آفاق للدراسات الاستراتيجية، أن الدعوة تعكس ضيق الدول الأوربية من الهيمنة والسيطرة الأمريكية على حلف الناتو وتكبدها تكاليف عالية داخل منظومة الناتو ترهق اقتصادياتها.
كما قال «تاياني» إن الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة يجب أن ييسر قيادته، وأن يكون له رئاسة واحدة بدلا من الهيكل الحالي الذي يتألف من رئيس للمجلس الأوروبي ورئيسة للمفوضية الأوروبية.
«جيش أوروبي» موحد يراه الخبير العسكري في إطار حلم أوروبي أوسع بالاعتماد عن الذات وحماية المصالح في مواجهة قوى وتكتلات دولية، مستبعدا الاستغناء عن الناتو أو التحرر من التبعية الأميركية دفعة واحدة.
هل تنجح الفكرة الأوروبية؟
ويوافقه اللواء الغباشي في الرأي، مزيدا أن نسبة مشاركة القوات الأوربية سواء على مستوى الأفراد أو القواعد حول العالم لا تقارن بالقوات والقواعد الأميركية حول العالم، بجانب أن أوروبا لا تستطيع تحمل تكاليف إنشاء حلف عسكري كبير، بالإضافة إلى الاختلاف حول من سيقود.
وتوقع أمين مركز أفاق للدراسات الاستراتيجية أن الفكرة لن تجد طريقها للتنفيذ، وأن دولا أوربيا سوف تقف في وجهها بسبب التكلفة العالية، بجانب دعم أكبر قوتين في الناتو وهما تركيا وإنجلترا لسياسات واشنطن في الحلف العسكري بشكل مطلق.
وأصبح «تاياني» زعيم حزب «إيطاليا إلى الأمام» بعد وفاة سيلفيو برلسكوني العام الماضي.
هواجس الأمن في أوروبا
سبق أن تناول المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات الملفات الأمنية التي تواجه القارة الأوربية، على رأسها الصراع الروسي الأوكراني وتحذير الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، في 16 سبتمبر 2023، من «حرب طويلة الأمد في أوكرانيا»، في وقت تواصل فيه كييف شن هجومها المضاد ضد روسيا.
اللواء محمد الشهاوي، مستشار كلية القادة والأركان يرى أن الدول الأوروبية الـ27 في الناتو لن تخرج من عباءة الولايات المتحدة وأن حلف الأطلسي قوى، واستبعد نفاذ مقترح إنشاء جيش أوروبي موحد على المدى القصير.
وطالب أمين الناتو أوروبا بأن تهيء نفسها لحرب طويلة الأمد في أوكرانيا، ورغم أن الاتحاد الأوروبي لم يكن لاعباً عسكرياً في حد ذاته، منذ بداية الأزمة في فبراير 2022، إلا أنه ظهر كلاعب مهم من خلال مساعدة المجهود الحربي الأوكراني، ودعم اللاجئين، وفرض العقوبات على روسيا، وتحويل أوكرانيا إلى واحدة من الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي.
وتوقع مستشار كلية القادة والأركان في اتصال مع «خليجيون» لجوء دول أوروبية في المقابل إلى تعزيز قوتها العسكرية بشكل منفرد كما فعلت ألمانيا، مضيفاً أن إنشاء جيش أوروبي موحد سيرهق ميزانيات دول الناتو بشكل كبير.
الكتاب الأبيض واستراتيجية الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي
في مارس 2022 اعتمد رؤساء الدول والحكومات خلال المجلس الأوروبي الوثيقة التوجيهية «البوصلة الاستراتيجية»، التي تعد أول كتاب أبيض للاتحاد الأوروبي في مجال الأمن والدفاع.
وتؤرخ الوثيقة سياسة الاتحاد الأوروبي الدفاعية والأمنية وتتمثل في توفير الوسائل التي ستتيح له مواجهة التهديدات والتحديات في المرحلة الراهنة وفي المستقبل، في سياق يسجل تدهور البيئة الاستراتيجية بفعل عودة الحرب في أوروبا، واشتداد التنافس بين الدول النافذة واستمرار الأزمات في جوارنا وفي العالم.
وترتكز البوصلة الاستراتيجية، التي أثمرت عن الأعمال التي استهلتها المؤسسات والدول الأعضاء في عام 2020، على تحليل مشترك للتهديدات ومكامن الضعف التي تعتري البلدان الأوروبية ويوجهونها على نحو مشترك.
وأسهمت هذه الأعمال في استحداث ثقافة استراتيجية مشتركة وفي تمتين تماسك الأوروبيين في مجالي الدفاع والأمن، وهو ما يتزامن مع عودة الحرب إلى القارة الأوروبية.
ركائز وثيقة الأمن الأوربية
وترتكز الوثيقة السياسة الأوروبية الأمنية والدفاعية على أربعة مبادىء وهي «التصرّف» ويتمثل في تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على اتخاذ إجراءات فعلية في عالم تتعاظم الوحشية والمباغتة فيه.
وثانيها «التأمين» ويعني النهوض بالقدرة على حماية الحيّز الاستراتيجي المشترك والدفاع عن القيم والقواعد والمبادئ التي يحرص عليها الاتحاد الأوروبي، أما ثالث المبادىء فتتمثل في «الاستثمار» ويشمل تعزيز السيادة التقنية من خلال تحسين القدرات الدفاعية.، وأخيرا «العمل في شراكة» ويرسخ للعمل مع «الشركاء» في تعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي بوصفه شريكاً دولياً.