الحاكم الرشيد؟
واحدة من أبرز الصفات التي ميزت سلطان عمان الراحل قابوس بن سعيد -رحمه الله- هي تلك القدرة الفائقة على الغوص في أعماق النفوس البشرية بالقدر الذي يمكنه من الفرز الدقيق وصولا إلى الاختيار الصائب.. ولعل هذا ما بدا واضحا في وصيته التي أشار بموجبها الى الشخص الذي يراه مناسبا لتولي الحكم من بعده.. الأقدر على حمل الأمانة العظيمة وتولي أعباء تلك المسئولية الجسيمة.. ولم يكن هذا الشخص سوى السلطان هيثم بن طارق الذي توسم فيه السلطان الراحل «من صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الأمانة».
والراصدون بأمانة والمراقبون بموضوعية لأداء السلطان هيثم بن طارق - الذي تولى المسئولية قبل أربع سنوات من الأن في ظل ظروف محلية واقليمية ودولية بالغة الحساسية والصعوبة والتعقيد - سوف يدركون جيدا معنى عبارة «الحكم الرشيد»؟
فمع وجود العديد من الانجازات التي يمكن سردها وتعدادها لسلطان عمان هيثم بن طارق في كافة المجالات خلال تلك الفترة القصيرة من ولايته الا أن قناعتي الشخصية بأن إدارته الكفؤة لملف الديون - التي كادت تهدد العملة الوطنية بل واستقلالية القرار الوطني وتمس الأمن الاجتماعي في الصميم - تكفيه فخرا وعزا ونجاحا.. كما أنها عبرة لمن يريد أن يعتبر ودرس للراغبين في التعلم ورسالة الى من يهمه الأمر.
النجاح العماني المبهر في إدارة ملف نتج عن وجود «حاكم رشيد» يمتلك إرادة سياسية قوية
قبل أربع سنوات كادت تلك الدولة الخليجية الهامة - التي لا يزيد تعداد سكانها المحليين عن الأربعة ملايين نسمة وتعتمد 70%من ايراداتها الحكومية على تصدير النفط والغاز بكلفة استخراجه المقدرة بخمسة أضعاف تكاليف الاستخراج قياسا مع دول الخليج العربية الأخرى - كادت تغرق في ديونها الخارجية، إذ بلغت نسبة دينها العام الى ناتجها المحلي الإجمالي أكثر من 70% عند بداية العام 2020م - 27 مليار ريال عماني بما يعادل 70 مليار و200 مليون دولار أميركي - ما دفع وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية الى وضعها في خانة الدول «دون المستوى الجدير بالاستثمار».
وكان هذا هو التحدي الأكبر للقادم الجديد الذي بدا مدركا لتلك الحقيقة المرة التي وصلت اليها بلاده خلال السنوات الخمس الاخيرة من حكم سلفه السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - بفعل الانهيارات المستمرة للأسعار في أسواق النفط العالمية مدفوعة بعوامل سياسية واقتصادية متداخلة.. لكن حيثيات داخلية أخرى كانت وراء هذه المديونية التي دفعت بالأوضاع المالية الى «شفا جرف هار» لامجال للخوض فيها الأن؟!
مع كل الظروف القاسية التي رافقت ولايته مقاليد الحكم الا أنه نجح باقتدار في فرز الأولويات التي تصدرها مأزق الدين العام فأعلن عن توجهه نحو العمل على تقليصه، واعادة هيكلة المؤسسات والشركات العامة بهدف دعم الاقتصاد موجها الحكومة بكافة قطاعاتها لانتهاج ادارة كفؤة وفاعلة تضع تحقيق التوازن المالي وتعزيز التنويع الاقتصادي واستدامة الاقتصاد الوطني في أعلى سلم أولوياتها، متبنيا خطة خمسية صارمة تستهدف الوصول إلى تحقيق «التوازن المالي» مع حلول العام 2025م، التي ترافق تنفيذها المتواصل مع سلسلة من إجراءات ضبط الإنفاق العام وسد ثغرات كانت منفذا للتسربات المالية، معيدًا هيكلة بعض القطاعات ضمن هذا السياق.
وفي نهاية ديسمبر الماضي - بعد مرور أقل من أربع سنوات فقط من حكم جلالة السلطان هيثم - رفعت وكالة «موديز» مستوى التصنيف الائتماني لسلطنة عمان للمرة الثانية من BA2 الى BA1 ما يعني تغيير النظرة المستقبلية من ايجابية الى مستقرة مرجعة هذا التطور في التصنيف إلى توقعاتها باستمرار تراجع الدين العام وتحسن مؤشرات قدرة الحكومة على تحمل أعباء المديونية العامة للدولة.
كما أن تحسن السياسات المالية وفاعليتها والعزم على خفض المديونية العامة سوف يسهم في تعزيز المركز المالي للدولة ومرونة الحكومة، وقدرتها على مواجهة الصدمات المستقبلية المحتملة، حتى ‘ن شهدت اسعار النفط تراجعا عن مستوياتها الحالية، كما تتوقع الوكالة الدولية تراجع المديونية العامة الى 35% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الثلاث القادمة. وهو ما يعني احتمالا قويا لارتفاع التصنيف الائتماني حال استمرار تراجع المديونية العامة وتحسن قطاع الإيرادات غير النفطية.
السلطان هيثم بن طارق تولى المسئولية في ظل ظروف محلية واقليمية ودولية بالغة الحساسية والصعوبة والتعقيد
«موديز» تقول أيضا إن تحسن فاعلية السياسة المالية العمانية وإدارتها «على نحو غير مسبوق» سيعزز الوضع الائتماني لسلطنة عمان على المديين المتوسط والبعيد، مشيدة بالخطة المالية المتوسطة المدى ومبادرات تعزيز الإيرادات غير النفطية التي أسهمت في هذا التحسن. كما أن وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني هي الأخرى عدلت نظرتها المستقبلية إلى ايجابية، وكذلك وكالة «ستاندرد اند بورز» بفعل تحسن اداء الموازنة العامة وكفاءة الادارة المالية.
هذا النجاح المبهر في إدارة ملف الديون لم يكن ارتجاليا أو عشوائيا انما نتج عن وجود «حاكم رشيد» يمتلك إرادة سياسية قوية وجهت بوضع خطة خمسية تضمن تحقيق التوازن والانضباط المالي واعية بأهمية الحفاظ على استقلالية القرار الوطني، وعدم ارتهانه لمؤسسات مالية أو شهوات صبيانية قادمة من وراء الحدود.وهي تطورات تؤكد في مجملها استمرار القيادة العمانية في المضي بأقدام ثابتة في الادارة الحكيمة لمحفظتها الاقراضية، وخفض الدين العام بما يعزز من قدرتها على مواجهة اية صعوبات او تحديات مالية.
كما أن اعتماد سعر ستين دولارا للبرميل في موازنة العام الجديد 2024م - بينما متوسط اسعاره الحالية ثمانية وسبعين دولارا - يعني المزيد من التحوط الذي سيؤدي «بأريحية ودون مساس بمعدلات النمو الحالية» إلى فوائض مالية من شأنها أن تسمح بمزيد من تقليص حجم الدين العام.
وإن كان صحيحا أن كلفة الاصلاحات الاقتصادية والمالية قد تحملها المواطن العماني في بعض جوانبها، الا أن الصحيح أيضا أن حسابات الربح والخسارة تنتهي الى نتيجة مفادها أن الوطن العماني هو الرابح بكل تأكيد.
حفظ الله السلطان هيثم بن طارق عنوانا صادقا وأمينا للحكم الرشيد.. وحفظ الله عٌمان الحبيبة وشعبها الوفي.
* كاتب صحفي مصري