قيود وعقوبات أميركية تزعزع ثقة العراقيين بالنظام المصرفي
عاد محمد الغزالي يجر أذيال الخيبة مرات عديدة بعد أن أراد سحب أمواله من مصرف محلي في العاصمة العراقية بغداد، عقب رفض المصرف تسليمه أي مبلغ بذرائع مختلفة.
الغزالي (56 عاما) كان يودع الأموال التي يتقاضاها شهريا من عمله في تجارة الملابس بالدولار، لكنه فوجئ بتعليمات المصرف الذي رفض تسليمه أمواله، مشترطا حصوله عليها بالدينار العراقي.
وقال الغزالي لوكالة أنباء العالم العربي «المصرف امتنع عن تسليم ودائعي بالدولار، وفرضوا علي الحصول على قيمتها بالدينار العراقي، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خسارة تعادل مليوني دينار لكل عشرة آلاف دولار بسبب الفارق بين سعر الصرف الرسمي للدولار (1320 دينارا للدولار) وسعر السوق (الموازية) الذي يصل إلى 1500 دينار».
وأعلن البنك المركزي العراقي في أكتوبر إيقاف السحب النقدي بالدولار اعتبارا من أول يناير بهدف خفض سعر الدينار مقابل الدولار في السوق الموازية، وأوضح لاحقا أن هذا الحظر لا يشمل أرصدة المواطنين الدولارية، بل فقط التحويلات الواردة من خارج العراق. كما حذر المركزي العراقي المصارف من عدم تسليم الدولار إلى المواطنين.
ويستورد العراق سنويا عشرة مليارات دولار من مصرف الاحتياطي الاتحادي الأميركي، حيث يتم الاحتفاظ باحتياطيات العراق من العملة الصعبة البالغة 120 مليار دولار والتي تأتي من مبيعات النفط.
وسعى البنك المركزي العراقي إلي ضبط حركة الدولار من خلال منصة إلكترونية أنشأها في نوفمبر 2020، وألزم المستوردين بالتعامل عبرها للحد من تهريب العملة الصعبة بشكل غير قانوني، لأسباب من بينها التهرب من العقوبات الأميركية على إيران وسوريا.
وتسببت القيود على الدولار في زعزعة ثقة العراقيين في النظام المصرفي، فلجأ بعضهم إلى اكتناز الأموال في منازلهم، وهذا ما ينطبق على عادل الحمداني (59 عاما)، الذي يمتلك مكتب صيرفة في بغداد، حيث يرى أن «وضع الأموال تحت اليد أسلم من إيداعها في المصرف، فأنت لا تعلم ماذا سيحدث غدا». ويشير الحمداني إلى أن «التوترات الأمنية والعقوبات المفاجئة التي يفرضها (مصرف الاحتياطي الاتحادي الأميركي) على بعض المصارف تزعزع ثقة الشارع بها».
ويضيف الحمداني في حديثه إلى وكالة أنباء العالم العربي «الثقافة السائدة في الشارع هي سحب الأموال، فالكثير من الموظفين في دوائر الدولة يسحبون مرتباتهم الشهرية حالما تصبح متاحة في بطاقاتهم أكثرهم لا يسحب كفايته فقط، بل يقوم بوضع كل الراتب نقدا في الدار، وهذه إشارة كبيرة إلى انخفاض نسبة الأمان بالنظام المصرفي».
أموال خارج النظام المصرفي العراقي
سجل العام 2023 أعلى نسبة لحجم الأموال المتداولة خارج النظام المصرفي في تاريخ العراق، وبحسب مؤسسة إحصائية، فإن أكثر من تريليون دينار تم تداولها خارج البنوك.
وما زال كثير من العراقيين يحتفظون بأمواله بطرق تقليدية داخل المنازل أو أماكن أخرى بعيدا عن المصارف، وهو أمر يعزوه خبراء إلى اهتزاز الثقة في الأنظمة المصرفية العراقية، لا سيما مع العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على بعض المصارف، وتباين أسعار صرف الدولار.
ويقول الخبير الاقتصادي ناصر الكناني لوكالة أنباء العالم العربي «ارتفاع نسبة العملة النقدية خارج المنظومة المصرفية يحمل تبعات سلبية على الوضع الاقتصادي والمالي وزيادة في نسبة التضخم، وهذا ما يعانيه العراق حاليا، إذ توجد نسبة ضئيلة فقط من العراقيين تودع أموالها في المصارف».
وعزا الكناني ارتفاع نسبة تخزين الأموال خارج البنوك إلى «فقدان الثقة بالنظام المصرفي، فالناس يخزنون أموالهم في المنازل والمواقع غير المصرفية”. وأضاف «المواطنون لا يثقون بالمصارف، بما في ذلك الحكومية، خاصة في ظل استمرار العقوبات الأميركية على بعض المصارف، لأن هذا يجعل الأموال مهددة أو يكون هناك صعوبة في الحصول عليها، لا سيما لأولئك الذين يودعون أموالهم بعملة الدولار في المصارف».
وأشار تقرير لمؤسسة (عراق المستقبل) للدراسات والاستشارات الاقتصادية إلى ارتفاع قيمة العملة النقدية المصدرة بنسبة 9.24% خلال العام الماضي، إذ زادت من 78 تريليون دينار في بداية عام 2022 لأكثر من 102 تريليون دينار في نهاية 2023، إلى جانب ارتفاع معدل التضخم بواقع أربعة في المئة، وفقا لبيانات وزارة التخطيط. وأظهر التقرير أيضا أن الأموال المتداولة خارج المنظومة المصرفية بلغت 93 تريليون دينار في 2023، في زيادة بواقع 30% عن العام السابق، وهي أعلى نسبة لحجم الأموال المتداولة خارج النظام المصرفي في تاريخ العراق.
ويبلغ عدد سكان العراق حوالي 43 مليون نسمة، ويتجاوز عدد البالغين الذين لا تشملهم منحة الرعاية الاجتماعية التي تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية 26 مليون نسمة، مما يعني أن معدل اكتناز كل عراقي للعملة المحلية يصل إلى نحو 7.2 مليون دينار، بحسب تقرير مؤسسة (عراق المستقبل).
وقال الخبير المصرفي أحمد التميمي لوكالة أنباء العالم العربي «فقدان الثقة في المصارف من قبل المواطنين سيرفع بلا شك من حجم النقد خارج المنظومة المصرفية، ولا سيما أن تلك المصارف مهددة في أي لحظة بالعقوبات الأميركية». وأضاف التميمي «المواطن العراقي بدأ يفقد الثقة يوما بعد يوم في النظام المصرفي، وهذا يعني أن حجم النقد المتداول خارج المنظومة المصرفية سيزيد خلال المرحلة المقبلة، خصوصا في ظل عدم وجود أي تحركات وإجراءات حكومية تزيد من ثقة المواطن في النظام المصرفي».
وتابع قائلا «أزمة الدولار لها تأثير كبير في امتناع الكثير من المواطنين عن إيداع أموالهم في المصارف، التي أصبحت تتسلم حوالات المواطنين بالدولار وتعطيهم أموالهم بالدينار بالسعر الرسمي مما تسبب في خسارة كبيرة للكثيرين، ولذا أصبح الحل الأفضل لهم هو تخزين أموالهم في المنازل والشركات الخاصة بهم».
عقوبات أميركية
وضعت وزارة الخزانة الأميركية الشهر الماضي مصرف الهدى العراقي على لائحة العقوبات فيما يتعلق بغسل الأموال بدعوى عمله “كقناة لتمويل الإرهاب»، كما فرضت عقوبات على رئيسه التنفيذي، مما أدى إلى تراجع ثقة العراقيين بشكل أكبر في النظام المصرفي.
وقال محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق في أواخر الشهر المنصرم إن المركزي منع عددا من المصارف والشركات من الحصول على الدولار لعدم التزامها بالمتطلبات.
وفي وقت سابق من الشهر الحالي، دعا العراق وزارة الخزانة الأميركية إلى إعادة النظر في قرار فرض عقوبات على بعض المصارف المحلية، مؤكدا أن هذه البنوك لها دور مهم في تمويل نفقات البطاقة التموينية وتوفير السلة الغذائية للعائلات العراقية.
وقال عضو اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي معين الكاظمي لوكالة أنباء العالم العربي «أزمة الدولار وأيضا العقوبات الأميركية من الأسباب الرئيسية في فقدان الثقة بالنظام المصرفي من قبل المواطنين، وهذا ما دفعهم إلى تخزين الأموال في المنازل بدلا من المصارف».
لكن الكاظمي، وهو قيادي في كتلة بدر التي يتزعمها هادي العامري، والتي تعد ركنا أساسيا في الإطار التنسيقي الداعم للحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، ألقى باللائمة على واشنطن، إذ يرى أن «الأمر متعمد من قبل واشنطن فهي لا تريد بناء أي اقتصاد قوي للعراق، ولذا فهي تصنع مشكلات اقتصادية للعراق بين الحين والآخر».
ويضيف «الحكومة مستمرة في عملها من أجل زيادة ثقة المواطنين بالنظام المصرفي، والمرحلة المقبلة ستشهد تطورا ملحوظا بهذا النظام، وهذا بالتأكيد سيحد من ارتفاع حجم الأموال خارج المنظومة المصرفية».