عائلات فلسطينية نازحة تبيع الحُلي لتوفير الطعام
تقف الفلسطينية أم وسيم (43 عاما) حائرة مترددة أمام بائع الذهب وهي تعرض أثمن ما في مصاغها ماديا ومعنويا للبيع، كونها هدية أمها بمناسبة أول مولود لها قبل 20 عاما من جهة، وعهدها لأمها بعدم بيعها مهما كانت الظروف من جهة أخرى، لأن الأخيرة ورثتها عن أمها أيضا.
تنزع الفلسطينية الأساور الغالية على قلبها من يدها، وتقدمها للصائغ الذي يفحصها ويقلبها بين يديه ليتأكد من عيارها وجودتها قبل أن يضعها على الميزان، وعينها تتابعها بحزن كبير في اللحظات الأخيرة قبل أن تفارقها، بعد أن كانت تضعها في يدها بكل المناسبات مفتخرةً بامتلاكها قطعة من نوعية قديمة.
أم وسيم النازحة من شمال غزة إلى دير البلح وسط القطاع، اتفقت في وقت سابق مع زوجها واستأذنت أمها لبيع إسورتها تحت ضغط الحاجة الماسة للمال، لكن قلبها لا يطاوعها على تنفيذ الاتفاق والبيع بهذه السهولة، لتظل تسأل الصائغ عن أي بدائل أخرى كالرهن أو الاستبدال أو الاستدانة، لكن دون جدوى.
تضطر الفلسطينية إلى البيع وقبض ثمن الأساور بالدينار الأردني، كما هو معتاد محليا، بخسارة كبيرة قياسا بثمنها قبل الحرب، ثم تزيد خسارتها بعد تحويل العملة إلى الشيقل الإسرائيلي، لانخفاض قيمة الدينار وزيادة الطلب على الشيقل باعتباره العملة الرئيسة المتداولة في البيع والشراء في الأسواق.
تغادر أم وسيم، التي فضّلت تعريف نفسها بهذا الاسم دون كشف عن هويتها كاملة، مكان البيع وهي تخرج أنفاسها بعمق من جوفها، بعد أن وضعت مالها في محفظة صغيرة تحملها، لترفع يديها إلى السماء قائلة "يا رب ما تطوّلها شدّة يا رب فرجك القريب بعد أن ضاقت بنا الأرض".
نفاد المدخرات العائلية في غزة
تُبيّن الفلسطينيّة أم وسيم أن مدخرات عائلتها الماليّة نفدت بعد ستة أشهر من الحرب بينما تعطّل زوجها عن العمل، كونه صاحب محل تجاري اضطر لإغلاقه منذ نزوحهم قبل خمسة أشهر من شمال غزة، ولا يوجد أي مصدر رزق يمكنهم من خلاله توفير احتياجاتهم اليومية، خصوصا أنّ عائلتها مكونة من ثمانية أفراد أصغرهم في الرابعة من عمره.
وتوضح أنها استدانت أكثر من مرة من أقاربها وأقارب زوجها، ولم يتبق لها أيّ فرصة للاستدانة مجددا، خاصة أنّ كل العائلات النازحة منهكة ماليا وصرفت كل مدخراتها.
وتقول إنها كانت بين خيارين أحلامهما مر، إمّا الاحتفاظ بمصاغها دون بيع جزء منه، أو ترك أبنائها يتضورون جوعا ويحرمون من أشياء كثيرة يشاهدونها في الأسواق.
وتبيّن الأم أنها فضلت التضحية بمصاغها على حرمان أبنائها مما يشتهون من طعام أو يحتاجون من ملابس ومستلزمات، لتعرض أكثر من قطعة من ذهبها للبيع.
تذكر أم وسيم أن زوجها حاول أن يثنيها عن هذه الخطوة، لكنها أصرت عليها بعدما وصلت أمور العائلة حد الاحتياج الحقيقي ولم يتبق معهم أي مبلغ لشراء أي مستلزمات، موضحة أن عائلات كثيرة سبقتها إلى هذه الخطوة، حتى إن بعض النسوة بعن مصاغهن كاملا قطعة بعد أخرى لشراء خيمة وتوفير طعام.
وتقول «المال والذهب لا قيمة لهما أمام جوع أبنائي وحاجاتهم زمن النزوح والحرب مع الغلاء الفاحش في الأسعار"، مضيفة "ألا يكفي القصف والرعب والخوف، حتى نحمل أثقال الحرمان من أبسط الأشياء».
بيع المقتنيات ظاهرة بين النازحين
بالطريقة ذاتها، اضطر الفلسطيني محمود قاعود (35 عاما) إلى بيع خاتمين من ذهب زوجته، لعدم قدرته على توفير الاحتياجات الأساسية لعائلته، خصوصا من الخضراوات وبعض الاحتياجات كبرميل مياه وأواني مطبخ ومستلزمات أخرى تخفف عن العائلة وطأة ظروف النزوح.
ويوضح الأب لثلاثة أطفال، مسك (9 أعوام) ومنى التي تصغرها بثلاثة أعوام، ومحمد الذي لم يكمل أعوامه الثلاثة، أن بيع الذهب والفضة والسيارات ومقتنيات ثمينة عدة لدى بعض العائلات ظاهرة منتشرة بين معظم النازحين الذين تضيق ظروفهم رغم أن أوضاعهم قبل الحرب كانت ميسورة.
ويعد قاعود هذه الحرب لم تُبقِ غنيا ولا تاجرا ولا ميسورا ولا موظفا إلا دمرته وأنهكته حتى الوصول إلى مرحلة الحاجة الحقيقية والاضطرار لبيع أي شيء لتوفير المال، متوقعا أن تتدهور الأمور أكثر من ذلك إذا ما استمرت الحرب والنزوح مدة أطول من ذلك.
ويقول "لم يتوقع أحد استمرار الحرب كل هذه المدة الطويلة، والجميع ظنّ أنّ علينا تحمّل بضعة أسابيع أو شهرين على أقصى تقدير، لكن الأمور زادت صعوبة بطريقة مرهقة ومهينة، فالكلّ خرج من منزله نازحا دون حمل أي من أمتعته".
ويضيف «أشهر النزوح لم تُبقِ معي أي مدخرات، فأنا كنت عاملا في إسرائيل، وبمجرد حدوث الحرب توقفت عن العمل. والآن زوجتي على وشك الولادة وبحاجة لأشياء كثيرة لا أملك من ثمنها شيئا».
مرارة لحظة البيع
وتنتشر أكشاك وبسطات بيع وشراء الذهب في مناطق النزوح كافة المنتشرة وسط قطاع غزة وجنوبه، فضلا عن محال الصاغة العاملة في مدينتي رفح ودير البلح اللتين لم يجتاحهما الجيش الإسرائيلي.
وفي ميدان مدينة دير البلح وسط القطاع، لا يتوقف تاجر الذهب والعملات عبد المجيد الكرد عن استقبال الراغبين في بيع مصاغهم بأعداد كبيرة وغير مسبوقة يوميا، وفق تقديره، خصوصا بين العائلات النازحة من مناطق متعددة من القطاع.
يذكر عبد المجيد (63 عاما) أنه يعمل بمهنته منذ أربعة عقود ولم يمر عليه إقبال على بيع الذهب بهذا الشكل الكبير رغم انخفاض أسعاره وخسارة أصحابه، لافتا إلى أنه يشعر بمرارة من يبيع لحظة البيع، حتى إن بعض النسوة يبكين وبعضهن يترددن مرات عدة ويبعن في نهاية المطاف.
ومن بين حالات بيع الذهب الكثيرة، يروي التاجر أن بعضهم يبيع أشياء ثمينة ولا تقدر بأي مال مثل جنيه إسترليني ورثه أحد الأشخاص عن والده وأجداده يزيد عمره على 100 عام، أو خاتم جلبه آخر من المملكة العربية السعودية قبل 45 عاما، مشيرا إلى أن عروسا تزوجت قبل الحرب بأشهر قليلة اضطرت لبيع ذهبها كاملا.
ويعزو عبد المجيد الأسباب الرئيسة للبيع، وفق حديثه مع الناس، إلى الحاجة لتوفير الطعام والملابس ومستلزمات يومية أخرى، فضلا عن شراء الخيام أو مستلزمات إقامة العُرش، وبعضهم يبيع ليوفر جزءا من متطلبات السفر، رغبة في الفرار من جحيم الحرب بقطاع غزة.
ويؤكد أنّ خسارة البائعين تلحق بهم في جوانب متعددة، تبدأ بالخسارة المعنوية لعائلات كانت ميسورة ولم تتخيل في أسوأ كوابيسها اضطرارها لبيع الذهب، وتمر بالسعر المنخفض جراء العرض الكبير للذهب، وتشمل التحويل من البيع بالدينار الأردني إلى الشيقل الإسرائيلي أو الدولار الأميركي حسب الحاجة.
اقرأ المزيد:
الكويت تحقق في شراء أصوات بالانتخابات النيابية
العراق يعلن موقفه من خفض إنتاج النفط
وزير كازاخستاني يقتل زوجته بطريقة بشعة.. فيديو تعذيبها يثير صدمة