تطبيع العنف
لا يحتفظ التاريخ بالهوامش، ولا مستصغر الأمر، بقدر ما يُخلّد الأسباب والنتائج، لعلّ أقوام يفقهون مآلات الزمن، وقدرته على قلب الأمور، وتحويل المسارات، لكنّ تلك الهوامش التي ربما لا يعرفها أو يدركها إلا محيط بقُطْر لا يخرج عن نطاقه الشعبوي، تحتفظ بمشاهد لا حصر لها لـ«القاسية قلوبهم».
فجعتني مشاهد صوَّرتها كاميرا قوة أمنية لحظة الوصول إلى وكرٍ يُحتجز بداخله مجموعة من المهاجرين غير نظاميين في دولة عربية، هاربين من الفقر والحروب بدولهم الأفريقية التي تأكل أجسادهم، إلى جحيم عصابات التهريب، الذين يمارسون أبشع أنواع التعذيب تجاه مساكين لا حول لهم ولا قوة.
في حرارة الشمس القاسية يفترش شباب عراة نحيفو الجسد، رمالاً ملتهبة، تخلو من فراش يعزل سخونة الأرض من تحتهم، اكتفاءً بقسوة الشمس الساقطة فوق رؤوسهم، والندوب لا تترك جزءًا من أجسامهم، كعلامة على حفلات التعذيب التي يمارسها المهربون بحقهم.
دموعٌ وحمد لله ذرفت من هؤلاء المساكين لحظة رؤية أصوات أشخاص يرتدون زيًّا عسكريًا وهم يصرخون فيهم: لا تخافوا بوليس بوليس لا تخافوا، وقتها فقط شعروا بجرعة أمان، وأن أصحاب السياط وقعوا للتو في قبضة الأمن، وأنهم (المهاجرين) يمكن أن يُمنحوا فرصة للحياة.
هذا المشهد المكرر لمئات المرات بعيدا عن أعين الكاميرات، يبقى شاهداً على الهوامش التي أشرت إليها آنفا، هوامش للقاسية قلوبهم، تجاه ضعفاء الأرض، وشركاء الإنسانية.
ليس فقط المهاجرون، وإنما في كل بقعة على ظهر الأرض ثمة مشاهد قاسية من العنف والقتل والتعذيب، سواء بفعل الانفلات الأمني أو بفعل أمني، بمناطق تشهد حروباً وصراعات على غرار السودان الشقيق، حتى بات العنف مُطبَّعا.
في السودان ثمة جوانب بعيدة عن الكاميرات، أطفال يُحالون للموت جوعا، تتحول أجسادهم إلى هياكل عظامية، ثم يتوارى ما تبقى من أجسادهم تحت التراب، وهناك سيخبرون الله بكل شيء، في محكمة العدل الإلهية، سيجتمع الجميع، ويصدر الحكم من دون استئناف.
لست بحاجة لإعادة مشاهد يومية تنقلها كاميرات الإعلام من واقع الإبادة الجماعية في غزة، ولست بحاجة لأقول للعرب إن حوالي 12 ألف امرأة قُتلت بقذائف الاحتلال، وأن سيدة حامل، رحلت بمن في بطنها إلى الله، لتخبره أن بني جلدتها لا يحملون صفة "إنسان".
أعلم كما يعلم الجميع أن الكلام ليس أصدق من الصور وليس أصدق من الواقع المشاهد، ولكنها صرخة مكلوم لا حول له ولا قوة، ولا يملك من أمره سوى الكتابة، لعل ضميرا مستترا وراء الشاشات يفيق ولو لمرة واحدة.
الأمر المحبط هو أن العنف أصبح معتادا ومستساغا، حتى صرنا لا نتفاعل مع مشاهد القتل عمدا في وضح النهار، وخفتت مشاعر الغضب في عروقنا، وبات الجميع يهرب من الواقع إلى ترف الحياة الدنيا، ولسان حاله يقول كفانا نكد.
لا يشعر بالنار إلا المكتوين بجحيمها، ولا يحس بالترف إلا الغارقين في نعيمه، وبين هؤلاء وهؤلاء ثمة الكثيرون التائهون في البحث عن لقمة العيش التي أصبحت غاية البقاء على قيد الحياة، وهؤلاء يحتفظون بأعذار يُقدِّرها الميزان الإلهي، لكننا لسنا بحاجة لأناس لا زالوا على قيد الحياة، نحن بحاجة إلى من لا يزالون على قيد الحياء.