«الغربة».. ثمن سد احتياجات الأسر اللبنانية
لجأ العديد من اللبنانيين إلى الاغتراب بعيدا عن الوطن، كوسيلة لسد احتياجات أسرهم في ظل الأزمة الاقتصادية والبطالة التي تعاني منها البلاد.
وتشير الأرقام الصادرة عن المؤسسة الدولية للمعلومات للإحصاء والدراسات إلى أن نحو 425 ألفا هاجروا من لبنان بين عامي 2017 و2023، بينهم 180 ألفا هاجروا في عام 2023. وتراوحت أعمار 70 بالمئة من المهاجرين بين 20 و40 عاما، حسب وكالة أنباء العالم العربي.
وبحسب البنك الدولي، تصدَّر لبنان المرتبة الأولى في المنطقة والرابعة عالميا من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلّي الإجمالي، والتي بلغت نسبتها 27.5 في المئة خلال 2023، مقابل 35.7 في المئة في نهاية العام 2022.
وفي تقريره (موجَز الهجرة والتطوير رقم 39) والذي أوردتْه دائرة الأبحاث في مجموعة (الاعتماد اللبناني)، قدّر البنك الدولي تحويلات المغتربين لعام 2023 بنحو 860 مليار دولار، فيما سجلت التحويلات 836 مليارا في عام 2022.
تهجير الأبناء
وتقول أستاذة علم النفس الاجتماعي ميري زعرور إن «العائلات اللبنانية تبدأ في تهيئة أبنائها للهجرة منذ الصغر».
وتضيف «التصقت صفة بالعائلة اللبنانية بأن تتحدث اللغة الأجنبية مع أولادها أكثر من العربية. والاعتقاد السائد أنّ هذا الأمر هو نتيجة الانتداب الفرنسي وفرضه التعليم بلغته، أو لاختيار عائلات إبراز تمايزها ثقافيا عن غيرها، لكن الأمر أعمق من هذا».
وتوضح «كل عائلة تُعلّم أطفالها الكتابة والكلام بطلاقة باللغة الأجنبية ليكونوا مهيئين في المرحلة الجامعية للسفر إلى الخارج للدراسة والعمل دون أن تشكل اللغة عائقا أمامهم، وبخاصة إن كان لديهم أقارب مهاجرون يتحدثون بهذه اللغات، وبالتالي يجرى تأسيسهم ثقافيا للهجرة، فنجدهم مرتبطين بالثقافة الفرنسية والأميركية أكثر من المحلية، سواء بطريقة لباسهم أو حديثهم أو أفكارهم ومعتقداتهم».
وتتابع «اعتُبِر لبنان في منتصف القرن الماضي من أهم المراكز التعليمية في المنطقة، وأحد تلك الأسباب أن شهادات بعض الجامعات تُسهّل التوجه نحو الخارج، فكان التركيز على التعليم باللغات الأجنبية لسهولة التواصل مع المؤسسات الخارجية والأكاديميين، مما فتح باب الهجرة الأكاديمية نحو الخارج».
الأثر على المجتمع
ومع استكمال تهيئة الأبناء ثقافيا وأكاديميا للهجرة، تكون الخطوة التالية هي اختيار الوجهة المناسبة التي تكون عادة تلك التي يوجد فيها أقرباء وأصدقاء لتوفير بيئة حاضنة للمهاجر.
وتعطي ميري عزوز كندا مثالا وقالت إن الجالية اللبنانية تشكل فيها «مجتمعا قائما يستقبل المهاجر ضمن ثقافة لا تختلف عن التي يعيشها في لبنان».
وهي ترى أن أثر المغتربين لا يقاس فقط بالتحويلات المالية التي يرسلونها لعائلاتهم، إنما الأثر الأكبر على التغيير الديموغرافي الذي يصيب المجتمع على المدى الطويل.
تقول «كون الفئات الشابة بين 18 و 30 عاما هي الأكثر هجرة، يخسر المجتمع طاقته الإنتاجية الفاعلة والمفترض أن تؤسس للمستقبل، وبالتالي يكون هناك اعتماد على الوافدين إلى لبنان من الخارج من عمالة أجنبية ونازحين لسد الفجوة في سوق العمل».
مراحل الهجرة من لبنان
وتشير أستاذة علم النفس الاجتماعي إلى أن الهجرة من لبنان مرَّت بعدة مراحل، منها مرحلة الحرب الاهلية اللبنانية التي دارت رحاها من عام 1975 إلى 1990 "ومنها صعود دول الخليج العربي التي أصبحت جاذبة للعمالة، وآخر المراحل تلك التي أعقبت الأزمة الاقتصادية عام 2019 والتي ارتفعت فيها وتيرة الهجرة بشكل كبير، ليس فقط بالنسبة للشباب إنما لمختلف الأعمار".
وهي ترى أنه مع كل هجرة من الداخل تحدث هجرة معاكسة من الخارج.
وقالت «مع بداية تأسيس الدولة اللبنانية عام 1920 شهدنا نزوح الأرمن والأكراد من شمال سوريا وجنوب تركيا. وفي عام 1948 شهدنا نزوح اللاجئين الفلسطينيين. وبعد عام 2012 دخلنا في أكبر موجات النزوح مع النازحين السوريين. يضاف إلى ما سبق العاملون العرب والأجانب الذين يأتون للعمل بشكل فردي ولكنهم شكلوا مع الوقت أعدادا كبيرة في المجتمع».
التغيير الديموغرافي
أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية جورج صايغ يرى أن لدى الدولة اللبنانية "أزمة بنيوية" تتعلق بموضوع المغتربين، ألا وهي عدم وجود أرقام دقيقة لعددهم في العالم.
ويقول «لا نملك في لبنان إحصاء رسميا لعدد المقيمين والمغتربين، فآخر إحصاء (يتعلق بأعداد كل طائفة) يعود لعام 1920، والسبب في ذلك هو الحفاظ على التوافقات الطائفية حتى يبقى التوازن في توزيع المناصب الرسمية والوظائف العامة مناصفة بين المسيحيين والمسلمين».
ويركّز صايغ على أهمية دور المغتربين بالنسبة لعائلاتهم بشكل خاص وفي الاقتصاد اللبناني بشكل عام.
ويضيف «المغترب هو طاقة إنتاجية يمكن الاستفادة منها بالداخل اللبناني عبر الخبرة التي اكتسبها في الخارج، أو ليكون صلة وصل مع المجتمعات الأخرى لتأمين وصول المنتجات من خلال افتتاح مؤسسات ومحال تجارية تبيع البضائع اللبنانية».
أما عن الآثار السلبية على المجتمع، فيرى صايغ أن اعتماد العائلات والحكومة على تحويلات المغتربين يؤدي لتراجع الاهتمام بتطوير الإنتاج المحلي والنهوض به. ويضيف «التحويلات تؤدي إلى زيادة في الاستهلاك وبالتالي رفع في أسعار المواد».
ومع استفادة الأسر المقيمة بلبنان من تحويلات ذويها المالية، ووضع خيار السفر في صدارة أولويات معظمها، ونشأة الشاب على الرغبة في العمل بالخارج، تتسارع وتيرة الهجرة.
يقول صايغ «الشاب اللبناني نتيجة ثقافة الهجرة السائدة يميل نحو البحث عن عمل في الخارج على حساب المهن والعمل في مؤسسات صغيرة وحرف يدوية بالداخل، ومن ثم تفقد السوق القدرة على المنافسة والتنوع في الموارد البشرية».
اقرأ المزيد
جرائم قتل في غزة وسط غياب الشرطة