أمواج النزوح تضرب مدينة خان يونس مجددا
في عصر يوم الاثنين الماضي، أسقطت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منشورات تطلب فيها من سكان منطقة شرق شارع صلاح الدين على امتداد محافظة خان يونس والقرى المجاورة الإخلاء الفوري والتوجه نحو «المنطقة الآمنة» غربي المحافظة.
وجاء في التحذير أن الجيش سينفذ عملية عسكرية داخل بلدات القرارة وبني سهيلا وخزاعة والفخاري وقيزان النجار وجورة اللوت والشوكة والنصر بكل أحيائها السكنية، علاوة على المناطق الإقليمية المشتركة في محيطها.
هبطت المنشورات على الأهالي العائدين من مدة قريبة إلى مربعاتهم السكنية المدمرة كالصاعقة بعد رحلة نزوح امتدت لأربعة شهور على الأقل بسبب العملية البرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي داخل خان يونس، وكذلك على آخرين اضطروا للنزوح من محافظة رفح بسبب الاجتياح البري المستمر هناك، ليشمل قرار الإخلاء المفاجئ نحو 250 ألف مواطن كانوا يقيمون في المناطق المذكورة لحظة إطلاق التحذير، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
يقول رائد فرحان، من سكان بني سهيلا شرقي خان يونس «عدت وأسرتي لنصب خيمة بالقرب من ركام منزلنا بعد دمار طوابقه الأربعة خلال العملية البرية على خان يونس بداية شهر ديسمبر الماضي، وذلك بعد رحلة نزوح استمرت أكثر من خمسة شهور حططنا فيها الرحال في أربع محطات داخل خان يونس وانتهاء برفح، قبل أن نعود أدراجنا إلى بني سهيلا بعد تهديد جيش الاحتلال منطقة تل السلطان حيث كنا ننزح غربي رفح».
أمراض مزمنة
ويضيف قائلا لوكالة أنباء العالم العربي«اضطررت وأسرتي المكونة من ثلاثة أبناء وأنا وزوجتي وأمها، التي تعاني عدة أمراض مزمنة ولا تستطيع الحركة، إلى العودة في مشوار شاق ومرهق نحو منطقة سكننا الأصلية شرقي خان يونس، فلا مكان نذهب إليه بعد رفح سوى بيتنا المدمر بعد تكدس منطقة المواصي بالنازحين وصعوبة الحصول على مكان ننصب خيمتنا فيه».
ويستطرد «كنا نأمل أن تكون عودتنا إلى بني سهيلا محطتنا الأخيرة في التنقل بعد فراغ جيش الاحتلال من عملياته البرية داخل بلدتنا، إلا أن الواقع كان مغايرا ومحبِطا».
ويؤكد فرحان حزينا على اختلاف تجربة النزوح هذه المرة عن سابقاتها الأربع، فقد جاءت مفاجئة وفي ظروف اقتصادية هي الأصعب على النازحين بعد استنزاف كل ما يملكون من مال على مدار نحو تسعة أشهر من الحرب وانعدام أي مصدر للدخل بالتزامن مع القفزات الكبيرة في الأسعار وارتفاع التكلفة على صعيد مناحي الحياة المختلفة.
ويواصل حديثه «استطعت الوصول رفقة أسرتي نحمل بعض الحقائب الصغيرة إلى منطقة البلد وسط خان يونس بشق الأنفس في رحلة استمرت لأربع ساعات من التنقل سيرا وعلى عربات تجرها الحيوانات بعد تعطل التوكتوك الذي أملكه في منتصف الطريق دون أمل في إصلاحه، علاوة على دفع كل ما لدي لشراء الوقود اللازم لتشغيله».
ويتابع «الآن.. لا أدري كيف سأتدبر أموري في توفير مكان وفي شراء الاحتياجات اللازمة».
رحلة معاناة تلو الأخرى
يروي خالد العقاد، الذي كدَّس بعض الفراش وأواني الطهي والأثاث البسيط على عربة جر، تفاصيل ليلته بعد وصوله إلى منطقة المواصي غربي خان يونس مساء يوم الاثنين ويقول «انطلقت وأسرتي لمغادرة منطقة سكني في جورة العقاد بعد سماع خبر طلب جيش الاحتلال الإسرائيلي إخلاء المنطقة والتوجه إلى المنطقة الآمنة غربي المدينة».
ويضيف «جهزت الأغراض الضرورية وحملتها على العربة فور سماع الخبر، فما حدث في منطقة الشاكوش والمنتزه الإقليمي في الجنوب الغربي للمدينة ومهاجمتها دون سابق إنذار رغم اعتبارها ضمن المنطقة الآمنة بحسب الخريطة المعلن عنها مسبقا أثار مخاوفي من إمكانية خضوعنا لنفس التجربة».
ويواصل حديثه لوكالة أنباء العالم العربي «وصلنا إلى شاطئ البحر في منطقة قريبة من شارع النص غربي جامعة الأقصى، لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة تمثلت في إيجاد مكان لنصب الخيمة والمبيت حتى الصباح، إلا أن الخيام كانت تغطي كل شبر من الأرض دون أي مساحة فارغة سواء في عمق المخيمات أو أطرافها».
ويتابع «اضطررنا لقضاء ليلتنا على الرمال الملاصقة لشاطئ البحر دون أن يغمض لنا جفن، فالأمواج وصلت إلى مكان جلوسنا الضيق وبللتنا المياه، بينما بقيت أغراضنا تراوح مكانها على العربة المتوقفة على جانب الطريق».
أما سحر أبو وادي فقد افترشت رفقة طفلتيها بوابة إحدى المدارس في محيط مستشفى ناصر غربي المدينة، وقالت «خرجت من منطقة الفخاري سيرا على الأقدام رفقة طفلتين بعمر الثالثة والخامسة دون أن أحمل معي سوى غطاء خفيف وبعض الملابس، اتخذت طريقي نحو مدارس في الجانب الغربي للمدينة بعيدا عن منطقة الإخلاء أملا في إيجاد مأوى داخل إحداها بعد أن بت ليلتي في ضيافة صديقة في منطقة البلد تعيش في جزء مستصلح من بيتها المدمر، إلا أن محاولاتي جميعها باءت بالفشل، فحتى ساحة المدرسة مكتظة بالخيام ولا مجال لافتراش غطائي الصغير في أي ركن حتى يأتي الفرج».
طافت على العديد من المدارس ومراكز الإيواء، لكن لم تفلح محاولاتها في الحصول على أي مساحة داخل أسوار أي منها لإقامتها مع طفلتيها اللتين تتولى وحدها مسؤولية رعايتهما بعد اعتقال زوجها عند حاجز (الحلابة) الذي أقامه
جيش الاحتلال الإسرائيلي على الطريق المحدد لإخلاء مركز إيواء (صناعة الوكالة) غربي خان يونس إبان اقتحامه بداية العام.
تجلس سحر مكانها أمام بوابة المدرسة مستسلمة لعجزها ويأسها ودون أي نقود تتيح لها استئجار مكان أو توفير ولو وجبة واحدة لطفلتيها. تعاطَف الكثيرون معها لكن أيا منهم لم يكن باستطاعته مساعدتها وتوفير حل يهوّن عليها محنتها.
البقاء رغم الخطر
آثرت كثير من الأسر العائدة إلى المناطق الشرقية من محافظة خان يونس أو التي نزحت إليها من محافظة رفح المجاورة البقاء كَرها داخل مناطق سكناها الحالية دون تنفيذ أمر الإخلاء، إذ أنها تفتقر لأدنى المقومات اللازمة للانتقال إلى منطقة أخرى، فلا مال لها لاستخدام وسائل مواصلات، ولا مكان لها داخل المنطقة الآمنة التي فقدت الثقة في أنها «آمنة» مع الاستهداف المتكرر لمربعات كان يُفترض أنها آمنة.
قال نافذ الجبور الذي يقطن غرفة داخل بيته المدمر في منطقة جورة اللوت «رجعت إلى هنا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية قبل نحو ثلاثة أشهر لأجد بيتي وكد سنيني قد أصبح كومةً من ركام، إلا أنني فضَّلت ترميم إحدى غرفه والمكوث بداخلها مع زوجتي ووالدتي المسنة على البقاء داخل خيمة النزوح في رفح».
أما أولاده وأحفاده فقد تدبروا أمرهم في نقل خيامهم داخل أرضه في بلدة معن. ويقول «بينما نحن نرزح في حسرتنا على هذا الكم الكبير من الخراب والدمار، أفقنا على صدمة الاضطرار لعيش حياة النزوح مجددا».
ويواصل متحسرا «كنت قبل الحرب صاحب تجارة وأملاك، وأعيش وأسرتي على ما تفيض به أرضي من خير الزرع وتربية بعض رؤوس الماشية، إلى أن جاءت الحرب بويلاتها وخرابها، فجرف الاحتلال أرضي ودمر بيتي ولم يبقَ لي سوى هذه الغرفة وأرضي البور، وقد ذهب ما جمعت من مال طيلة حياتي خلال الحرب وتكاليف النزوح الأولى، والآن لا قدرة لي على النزوح ولا رغبة لديَّ على إعادة التجربة».
مثله خليل أبو دقة الذي رفض مغادرة منزله والاستجابة لطلب جيش الاحتلال الإسرائيلي بالإخلاء، وقال «ما يعانيه المرء بعد خروجه من بيته يفوق معاناة السمكة حين تخرج من الماء».
ويرى أبو دقة أن حياة النزوح أقسى من أن تُطاق في ظل انعدام أدنى مقومات الحياة الآدمية لا سيما معاناة الحصول على المياه، ناهيك عن تشتت الأهل والأبناء وتوزعهم على أكثر من مكان نتيجة شح الأماكن في ظل التكدس الكبير للنازحين، وهو يُفضّل الموت على عيش ذات الظروف مجددا.
وينضم خميس بربخ، النازح من رفح والمقيم في بيت العائلة الأصلي في خان يونس، إلى قائمة المتمسكين بالبقاء في المنطقة الشرقية رغم أوامر الجيش بالإخلاء الفوري ويقول «نزحت في المرة الأولى من رفح بعد دخول منطقتنا مربع الخطر، إلا أن الحقيقة أنه لا يوجد مكان آمن ما دامت إسرائيل مستمرة في حربها ضدنا».
ويتابع «بالرغم من كوننا مدنيين عُزل ونقبع في بيوت مدمرة وآيلة للسقوط في أي لحظة، لا يزال القصف يلاحقنا كل يوم وفي كل مكان، ولذلك أرى أن كل ما يقوله الاحتلال عن مناطق آمنة ما هو إلا مجرد أكذوبة يحاول فيها أن يجمّل صورته التي فضحتها جرائمه المروعة بحق الأطفال والعزل الآمنين».
ظروف مأساوية
تصف عطاف قوتة، النازحة في منطقة مواصي خان يونس، ظروف إقامتها «بالمأساة» نتيجة الصعوبات البالغة التي تواجهها من أجل تلبية احتياجاتها اليومية بدءا من الاستيقاظ على طابور المياه والبحث عن مواد يمكن إشعالها واستخدامها كوقود للطهي وإحماء أفران الخبز، وانتهاء بمعاناة دخول الحمام العمومي للمخيم الذي يقف أمامه طابور طويل ويفتقر للحد الأدنى من معايير النظافة بسبب الأعداد الكبيرة لمستخدميه دون توفر مياه أو أدوات ومواد تنظيف، مرورا بالإزعاج الكبير الذي يسببه تكدس السكان وتلاصق الخيام “بشكل مؤذِِ.
وتسرد جانبا من تفاصيل يومها فتقول «أتوزع وأبنائي منذ الصباح الباكر كلٌ على مهمته في محاولاتنا لقضاء حاجياتنا، تتملكنا مرارة شديدة جراء ما نعانيه كل يوم، فكل شيء في حياتنا بعد السابع من أكتوبر تحول إلى طابور طويل وكفاح مضنِِ للحصول على أقل القليل من مستلزمات العيش».
وتتابع «يزيد من قسوة ظروفنا نفاد أموالنا خلال هذه الفترة الطويلة وانقطاع وصول المساعدات بعد احتلال معبر رفح، فزوجي يخرج للعمل كأجير على شاحنة بيع مياه الشرب بعد أن كان صاحب مكتبة مرموقة في غزة، ولا يعود إلا ببعض طعام لا يُسمن ولا يغني من جوع، وأولادي بين طابور الماء وآخر لجمع الوقود (الأخشاب والأوراق وأي شيء يستخدم في إشعال النار)، وبناتي على تجهيز الملابس الواجب غسلها وترتيب الخيمة لحين عودة إخوانهم بالماء، أما أنا فأحاول تحضير وجبة الفطور مما تيسر لدينا من طعام بالكاد يسد رمقنا».
وتحكي «وصلنا إلى هنا قبل نحو ستة أشهر بعد رحلة طويلة من معاناة النزوح المتفرقة على أكثر من محطة. كنا نظن أن هذه المنطقة هي الأكثر أمانا على مستوى القطاع، إلا أن الاحتلال استهدف خياما مجاورة لنا مرات عديدة، وكادت أيضا مظلات المساعدات تسقط بشكل خاطئ مما تسبب في قتل البعض أو تدمير خيام كما حصل مع جارة على مقربة منا».
وتتحدث عطاف أيضا عن التكدس الكبير «والضغط الجنوني» على المرافق والخدمات لا سيما مصادر المياه الشحيحة والحمامات العامة التي قالت إن النازحين يضطرون لاستخدامها «رغم وضعها الكارثي».
ولا تزال عربات على مختلف أنواعها وأحجامها تتجه من شوارع خان يونس إلى منطقة المواصي والمناطق الغربية للمدينة، تحمل فراشا وخزانات مياه صغيرة وبعض أواني الطهي وقطعا من الأثاث المنزلي، وتعلو وجوه النازحين ملامح الحيرة من الحاضر واليأس من القادم والخوف من المجهول.
اقرأ المزيد:
تامر حسني في مرمى الانتقادات بسبب «حضن العروسة»