حرب الإبادة تحول سجن خان يونس إلى «ملاذ» غير آمن
يُحاول الفلسطيني كرم أبو دقة مداعبة بناته وأبناء أشقّائه من خلف نافذة علويّة لباب حديديّ كان يُغلق على مجموعة من الزنازين داخل مركز إصلاح وتأهيل خان يونس (السجن المركزي) الذي اضطر للنزوح إليه مع عدم وجود مكان لإيواء عائلته وست عائلات أخرى لأشقائه وأقاربه.
يدفع الرجل أصابعه بين فتحات النافذة الصغيرة قبل أن يخرجها محاولا الإمساك بأيدي الأطفال على الجانب الآخر لتهدئة خوفهم وتشجيعهم على العودة للعب والحياة أو النوم بعد أكثر من عشرة أيام قضوها داخل السجن الذي تحوّل إلى مركز للإيواء.
يصطنع أبو دقة (40 عاما) ابتسامة متكرّرة وهو يحثّ الأطفال على الاقتراب من الشباك أكثر حتى يمسك بهم، ويناديهم ببعض العبارات المشجّعة، لكن كلماته لا تلقى آذانا صاغية وهم ينظرون بابتسامة تخُفي كمّا هائلا من الخوف والحزن.
ينتزع أبو دقة، الأب لأربعة بنات أكبرهن ليان (15 عاما) وأصغرهن وتين التي لم تكمل عامين، ابن شقيقه الرضيع من جانب الأطفال ويضعه على الجانب القريب منه، ثم ينادي الصغار ليطمئنهم بأنّ أصغرهم عمرا موجود ومرتاح ليبدأوا بعدها تدريجيّا في اللعب معه خلف الشباك وتبادل الكلمات والحركات.
ويشكّل هذا النموذج تجربة يوميّة يخوضها الرجل وبقيّة أشقائه مع أطفالهم لمساعدتهم على التكيّف مع مكان النزوح الجديد، خصوصا أنّ وجودهم داخل سجن وأماكن جلوسهم ونومهم كانت مخصّصة لمجرمين وفق اعتقادهم أمر يزعجهم كثيرا.
سجن معرّض للقصف
يتحرّك الأطفال قليلا من أماكنهم ويتخلّصون شيئا فشيئا من بعض خوفهم بألعاب بسيطة يمارسونها في ساحات السجن الداخليّة أو الخارجية، بعيدا عن أماكن الزنازين وغرف السجناء التي يضطرون للعودة إليها خلال النهار لبعض الاحتياجات أو قبيل الليل للنوم.
وقال أبو دقة في حديث لوكالة أنباء العالم العربي إنه اضطرّ للنزوح داخل السجن رغم إدراكه الكامل لمخاطر قصفه من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي لأنّه مكان حكومي، شأنه في ذلك شأن بقيّة المرافق التي قُصفت منذ بداية حرب الإبادة في السابع من أكتوبر الماضي.
وأشار إلى أنّ أجزاءً متعددة من مباني السجن قُصفت في وقت سابق خلال اجتياح الجيش لخان يونس، والذي استمرّ أربعة أشهر من مطلع ديسمبر حتّى مطلع أبريل الماضي.
وأوضح أنّه لم يعُد يمتلك القدرة على دفع تكاليف نقل العرُش والخيام التي تنقّل بها ست مرّات منذ بداية الحرب قبل أكثر من تسعة أشهر، فضلا عن أنّه لا يوجد أيّ متّسع لنصبها، فآثر النزوح داخل مبنى لا يحتاج إلى خيام رغم افتقاره لأيّ من مقوّمات الحياة.
يتنهد أبو دقّة وهو يشير إلى عيشهم بإحدى غرف السجناء في الطابق الثاني للسجن، متسائلا «ماذا نفعل بأنفسنا وأبنائنا ونحن نقضي حياتنا نزوحا؟ إلى أين نذهب بعد كلّ هذا النزوح والتنقّل؟».
آلاف في مكان يتّسع لمئات
وقال أبو دقة، المتعطّل عن العمل منذ بداية الحرب، «بالكاد أوفّر أقل القليل من الطعام لأبنائي وأبناء شقيقي الشهيد الثلاثة، ولا يمكنني نقل ونصب خيام من جديد، سنعيش داخل السجن وليكن ما يكون.. .الأطفال يعيشون حياة رعب ويفزعون خلال الليل في أغلب الأيّام».
وتنتشر العائلات النازحة في طوابق ومباني السجن المتعددة، الذّي فرّ منه مئات السجناء قبيل اجتياح الجيش الإسرائيلي، بينما فضّلت بعض العائلات نصب خيامها وعرُشها في الساحات الخارجيّة لتقليل المخاطر بعض الشيء وفقا لتقديرها.
يعد هذا السجن الأحدث بناء، كونه افتتح قبل عدّة سنوات بعد بنائه بتمويل قطري، وهو الأكثر اتساعا في القطاع.
وبدأ مركز الإصلاح والتأهيل المركزي هذا في خان يونس، والمسمّى أيضا بسجن أصداء يكتسب مظاهر مراكز الإيواء التقليدية شيئا فشيئا، من حيث وجود الباعة وانتشار مظاهر النزوح الأخرى كالبحث عن المياه وإيقاد النار للطهي وجلوس النازحين في الساحات وعلى المداخل ونصب خيام جديدة بشكل مستمرّ.
وأوضح رمزي حمدان، وهو أحد مشرفي السجن سابقا ومركز الإيواء حاليا، أنّه مقام على مساحة 50 دونما (حوالي 50 ألف متر مربع) ومبانيه، التي تعرض أغلبها للقصف، بمساحة خمسة دونمات.
مكان غير مهيأ للنزوح
وعلى الرغم من أنّ مساحة مباني السجن ومرافقه كانت مخصصة لاستيعاب 1200 نزيل فقط قبل الحرب، بحسب حمدان، فإنّ أعداد النازحين داخله تتجاوز 20 ألفا في بعض الأوقات، خصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح مطلع مايو أيار الماضي وبعدما طُلب من سكّان شرق خان يونس النزوح قبل أسبوعين.
وبحسب حمدان، فإن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وغيرها من المؤسسات رفضت ضمّ السجن ليكون ضمن مراكز الإيواء التي تقدّم لها خدماتها، كونه مرفق حكوميّ معرّض للقصف الإسرائيلي إضافة إلى أنه غير مهيّأ وغير مناسب صحيّا ونفسيّا للنازحين.
وقال إنّ النازحين يفتقرون لكلّ احتياجاتهم الأساسيّة ولم تُقدّم لهم أيّ مساعدات تُعينهم على قضاء فترة النزوح الإجباريّة، فضلا عن شعورهم بأنّهم «سجناء مكان سجناء سابقين».
أضاف «لذلك، فإنّ معاناتهم مضاعفة عن غيرهم من النازحين، لتملك هذا الشعور من نفوسهم ليل نهار، إلى حدّ التندّر المستمرّ في ما بينهم على الجرائم التي لم يقترفوها ليكونوا داخل غرف السجناء».
وختم حديثه بالقول إن «غرف السجناء مكتظّة بالكتابة عن يوميّاتهم على الجدران.. .الكبار أو الصغار يقرأون هذه الكتابات بشكل مستمرّ، والجميع في حالة رعب من توقّع القصف من جهة وإرهاق نفسي كونهم مكان سجناء مجرمين من جهة أخرى».
اقرأ المزيد
كيف تأثر سعر النفط والدولار بمحاولة اغتيال ترامب؟