من باحث اجتماعي إلى جزار.. حرب الجنرالين تغير مهن آلاف السودانيين
أجبرت الحرب الدائرة في السودان منذ أكثر من 15 شهرا آلاف المواطنين على تغيير مهنهم بعيدا عن مجالات تخصصاتهم الأصلية، في ضوء تعطل معظم المؤسسات الحكومية والخاصة وعدم قدرة الدولة على صرف مرتبات العاملين بمؤسساتها.
وبعد أشهر قليلة من اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل من العام الماضي، سرّحت بعض مؤسسات القطاع الخاص موظفيها ومنحت شركات أخرى العاملين إجازات مفتوحة دون أجور، بعد أن تعرضت معظم المؤسسات والشركات للنهب والتدمير، وفق وكالة أنباء العالم العربي.
وفي مايو الماضي، أعلنت تنسيقية المهنيين والنقابات في السودان أن أكثر من ثلاثة ملايين عامل وعاملة فقدوا وظائفهم إلى الأبد بسبب الحرب، مشيرة إلى أن الإحصاءات الأولية تظهر أن 80% من العاملين بالقطاع الحكومي لم يتقاضوا الأجر الأساسي منذ 2023.
وأضافت التنسيقية في بيان أن 33% فقط صرفوا الأجور المستحقة للعاملين المدنيين بالدولة، مؤكدة على تخفيض العمالة بالقطاع المصرفي والقطاع الخاص «دون أدنى اعتبار لحقوق نهاية الخدمة والفوائد حسب قانون العمل السوداني».
كان من بين من أجبرتهم الحرب على تغيير مهنتهم الصحفي عبد العليم مخاوي، الذي اختار أن يصبح عامل «درداقة»، وهي عربة يدوية صغيرة يستخدمها لنقل الخضراوات والفاكهة بمدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض بوسط البلاد والتي نزح إليها بعد شهر من بداية الحرب.
وصل مخاوي إلى مدينة كوستي برفقة عائلته، واستقروا في مركز للنازحين بجوار سوق الخضر والفاكهة التي تعرف محليا باسم «الملجة».
البجث عن فرصة عمل
ويقول لوكالة أنباء العالم العربي «تجولنا أنا وشقيقي الأكبر بأسواق المدينة بعد أسبوع من مجيئنا بحثا عن فرصة عمل أو بدء مشروع بالمال القليل الذي نملكه يدر علينا دخلا يوميا، لأن الحياة هنا صعبة جدا ما لم يكن عندك مصدر دخل ثابت، وبعد بحث لم نعثر على شيء لأن ما نملكه من مال قليل جدا».
وأضاف «بحثنا في الأسواق والمحال عن فرصة عمل لكن دون جدوى، فلم يكن أمامنا خيار سوى اللجوء إلى سوق الملجة، واستأجرنا عربات درداقة وعملنا في مجال نقل الخضراوات والفاكهة لنعيل أسرتينا، فأصرف أنا على والدي وأخوتي، وشقيقي يصرف على عائلته الصغيرة».
يشير مخاوي إلى أن الحصول على درداقة يتطلب حضوره باكرا عقب صلاة الفجر مباشرة وإلا ضاع عليه اليوم، بل ويصف كيف كانت تلك العربات التي يستأجرها غير مهيأة ويعلوها الصدأ بما يعرضه هو وشقيقه لجروح في الأرجل بشكل يومي.
لذا، فكّر الصحفي السابق في شراء درداقة له ولشقيقه، الحاصل على درجة الدكتوراه في مجال علوم الأسماك، فيقول «بذلنا أقصى ما عندنا حتى حصلنا عليها، وتمكنا من اجتذاب الزبائن، حيث نجلس بجوار أول دكان للخضراوات في السوق وأصبح مكانا ثابتا نلتقي فيه الزبائن والتجار».
وأضاف «ونّا علاقات واسعة مع كل الموجودين بسوق الملجة من تجار الجملة والقطاعي وعمال الشحن والتفريغ وسائقي عربات التوك توك (المركبات الثلاثية العجلات) والعربات التي تجلب الخضار».
صحيح أن الدرداقة توفر لمخاوي قوت يومه ومصاريف أسرته، إلا أن عمله الجديد مرهق ولا يزال يشعر بالحنين إلى مهنته السابقة في مجال الصحافة والإعلام.
فيقول «أحن إلى العمل الإعلامي ودهاليز الإذاعة والتلفزيون وضجيج صالة الأخبار وصخب الملاعب والجماهير الذي فقدناه طوال العام الماضي. لكن استعضنا عن هذه المسألة بجمهور جديد ومهنة جديدة بالعمل على عربات الدرداقة».
غير أن مخاوي عبر في الوقت نفسه عن فخره بالعمل في سوق الخضراوات، وعدم الانكسار أو الاستسلام للظروف التي حرمته من وظيفته الأساسية.
التحول إلى الجزارة
لجأ خضر الخواض، الذي كان يعمل باحثا في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إلى افتتاح جزارة لبيع اللحوم كمشروع بديل يساعده على توفير مصدر دخل يعينه على إعالة أسرته بعد فقد وظيفته.
وقال لوكالة أنباء العالم العربي «اخترت العمل في مجال اللحوم وفتحت جزارة برأسمال بسيط رغم أنني لم أعمل من قبل في هذه المهنة، لكنني كيّفت نفسي. أذهب إلى المسلخ في وقت مبكر لجلب اللحوم وبعد فترة وجيزة اجتذبت زبائن».
وأشار إلى أن العمل في المهنة الجديدة شاق ويتطلب جهدا بدنيا كبيرا، لكنه مجبر على التأقلم، مضيفا «جئنا في ظروف نفسية صعبة وبضغوطات كبيرة، وأمامنا مستقبل مجهول، لكن ليس أمامنا خيار سوى العمل لكي نعيش».
وأوضح الباحث الاجتماعي، الذي نزح في بداية الحرب إلى ولاية القضارف بشرق البلاد، أن إفرازات الحرب كثيرة جدا، فمعظم السودانيين غيروا مهنهم ولا أحد يحتفظ بوظيفته إلا في الولايات التي لم تصل إليها رحى الحرب.
ولفت إلى أن كل من نزحوا إلى الولايات التي تصنف بأنها آمنة واللاجئين خارج البلاد امتهنوا أعمالا غير مهنهم الأصلية، «لذلك لم يكن أمامي خيار سوى العمل في أي مهنة لتوفير المصروفات اليومية.
وتابع «واجهتني في البداية صعوبات في التكيف مع المهنة الجديدة، وبمرور الأيام تأقلمت على الوضع. فقدنا كل شيء، وعلى الأقل سعيت لإشغال نفسي بهذه المهنة الجديدة، لأن أصعب شيء عانينا منه في النزوح هو الفراغ الذي يتسبب في اكتئاب ومشكلات نفسية».
يقول الخواض إن عددا كبيرا من موظفي المؤسسات المرموقة الذين نزحوا إلى القضارف اضطروا إلى العمل في مهن وصفها بالهامشية، كما هو حال الكثير من اللاجئين خارج البلاد، فهم كذلك مجبرون للعمل في أي مهن إلى حين توفيق أوضاعهم.
مطعم كشري
هبة يعقوب الموظفة بوزارة المالية السودانية غادرت منزلها المجاور لسلاح المهندسين بمدينة أم درمان، الذي كان يشهد معارك ضارية منذ الأيام الأولى للحرب، وتوجهت إلى مدينة عطبرة في شمال السودان ومكثت هناك أربعة أشهر قبل أن تغادر إلى أوغندا.
وتقول هبة، وهي أم لبنتين وولدين، لوكالة أنباء العالم العربي «مع غلاء المعيشة وارتفاع أسعار إيجار العقارات بمدينة عطبرة، قررت التوجه إلى أقرب دولة، فكانت وجهتنا العاصمة الأوغندية كمبالا، ومع استمرار القتال في السودان وتوسع رقعته أيقنت أن الحرب ستطول». وأردفت «لذلك قررت عمل مشروع، وافتتحت مطعما صغيرا لتجهيز الكشري يستهدف الطلاب السودانيين، واستطعت من خلاله توفير مصدر دخل لتوفير احتياجات أطفالي».
تصف هبة كيف أنها شعرت باختلاف كبير عند خروجها من الخرطوم في مواجهة الحياة الجديدة الصعبة، فتقول «الموضوع كان صعبا في البداية، لكن لم يكن أمامي حل سوى بدء المشروع. في الأيام الأولى كنت أعاني، وبالعزيمة والإصرار تمكنت من المواصلة حتى استقر المشروع الذي يساعدني في توفير احتياجات أبنائي».
اقرأ المزيد
ماذا قالت مديرة صندوق النقد لوزير مصري في واشنطن؟