هنا خان يونس.. الموت أهون من معاناة النزوح
«ليس لدي خيمة ولا عمود خيمة ولا مكان لخيمة»، كلمات رددها الفلسطيني بسام عبد الحي بصوت يملؤه الغضب بعدما فشل في توفير مأوى لعائلته على مدى يومين من الترحال أمضتهما على طريق مؤد لمنطقة المواصي غرب خان يونس جنوب قطاع غزة، ليستبد به اليأس إلى حد أن يعتبر الموت أهون من النزوح.
وأجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي السكان والنازحين في مختلف أنحاء جنوب خان يونس على الإخلاء فورا لتصنيفه هذه الأماكن على أنها «مناطق قتل خطيرة» السبت، ما اضطر الآلاف لمغادرتها سريعا مع تكثيف الجيش ضرباته الجوية والمدفعية، وفق وكالة أنباء العالم العربي.
يجلس عبد الحي الذي تجاوز الستين بقليل على كثبان رملية ألهبت الشمس حرارتها مع أولاده وأسرتي ابنيه المتزوجين بينما يلهو أحفاده بين الأمتعة القليلة التي استطاعوا أخذها على عربة يجرها حمار تاركين خلفهم معظم المواد الغذائية والأغطية والأواني وغيرها من المستلزمات التي عمل على جمعها طيلة الأشهر الماضية.
يبدو الإنهاك واضحا على ملامح الرجل ومن معه فهم في رحلة نزوح لا تتوقف. ما لبثوا أن اعتقدوا أنهم سيستقرون بعد خروجهم من رفح إلى مدرسة تؤوي نازحين وسط خان يونس، حتى أجبرهم الجيش الإسرائيلي على مغادرتها قبل ستة أيام إلى جنوب المدينة، والآن اضطروا للانتقال إلى المواصي.
بدأت معاناة عبد الحي وعائلته مع النزوح من بيته في بيت لاهيا شمال غزة قبل ثمانية أشهر وتنقل من مكان لآخر حتى انتهى به المطاف إلى العراء دون أن يملك ما يستظل به هو وعائلته كما لا يتوفر له المال اللازم لشراء خيمة مما يضعه في مواجهة أيام قادمة أشد قسوة وأكثر صعوبة.
رغم الحزن والإرهاق الشديدين يبذل كل ما في وسعه للتواصل مع جهات إغاثية على أمل أن توفر بعض المستلزمات لنصب خيمة لأبنائه وأحفاده لكن جهوده باءت بالفشل حتى الآن.
يقول عبد الحي «لم أملك خيمة لأنني كنت نازحا في رفح بمدرسة إيواء وفي خان يونس بمدرسة أخرى وعند انتقالي لجنوبها عشت في عريشة (خيمة) أحد الأصدقاء، والآن أنا برفقة 19 من الأبناء والأحفاد أصغرهم لم يتجاوز عامين بلا مأوى».
وأضاف «مصيرنا الحياة في الشارع، نحرم من الحصول على الخيمة ونواجه صعوبات في الحصول على مساحة صغيرة بمخيمات النزوح حتى نستفيد من خدمات المياه المتوفرة، لكن الأسوأ أن كل مناشداتي ورجائي لكثيرين لتوفير خيمة فشلت».
وسط حيرة وقلق سيطرا على الأب حاول ولداه المتزوجان التواصل مع أحد الأقارب لاقتراض ما يكفي من المال لشراء أخشاب أو أنابيب مياه وقطع قماش أو بلاستيك رخيصة ونصب خيمة، تحتمي بها النساء والأطفال على الأقل.
يشبه عبد الحي النزوح المستمر بأنه مثل «انتزاع الروح من الجسد وعودتها مرات عديدة دون موت صاحبها الذي يتمنى أن يأتي أجله لتتوقف عذاباته»، معتبرا أن الجيش الإسرائيلي يدرك أن النزوح الوسيلة الأكثر فتكا بالفلسطينيين والأقسى تعذيبا لهم بطريقة تجعل الموت أهون عليهم من الحياة وفق تقديره.
وبينما يعتبر أن النزوح مأساة لم يعد قادرا على تحملها بكل تفاصيله كونه مرهقا جسديا ونفسيا وماديا، فإنه يؤكد أن الاستقرار خلال هذه المرحلة بات في صدارة مطالب الفلسطينيين، وقال «طالما لا أحد يستطيع وقف الحرب والقصف فليتوقف ترحيلنا وتعذيبنا ونحن أحياء بأقل تقدير».
وتنتشر العائلات النازحة على الطرق الرئيسية والفرعية في غرب خان يونس أو تلك المؤدية لمنطقة المواصي، على أمل الحصول على مأوى سواء داخل بعض مخيمات النازحين المقامة سابقا والمكتظة بأهلها أو بين الأراضي الزراعية أو فوق الكثبان الرملية لربما تتوفر مساحة محدودة بين الخيام المتلاصقة.
عائلة رفعت أبو علي التي نزحت قبل أسبوع من شرق خان يونس كانت واحدة من عائلات كثيرة التي ما زالت تفترش الأرض وتلتحف السماء واقعا لا مجازا، حيث يقيم أفرادها بجانب ثلاث أشجار دون خيمة تؤويها، لتضطر لاستعارة بعض ما تحتاجه من عائلات نازحة مجاورة.
أبو علي الذي ينزح للمرة السابعة مع زوجته وأبنائه الستة يعتبر أن وصف ما يحدث للفلسطينيين من تنقلات مستمرة بالنزوح «تبسيط للواقع ووصف غير حقيقي لما يحدث من معاناة وعذاب بلا نهاية»، لافتا إلى أن «الكارثة تبدأ منذ لحظة مغادرتك منزلك والتنقل من منطقة إلى أخرى في أماكن غير مؤهلة لحياة البشر ولا حتى الحيوانات» على حد قوله.
وقال «تخيل مر أسبوع على عائلتي وأنا أنزح تحت شجرة ولا أملك مالا لشراء خيمة أو إنشاء مرحاض بعدما نفدت كل مدخراتي.. وأن أتنقل بين مناطق النزوح، وفي كل مرة أتكلف مبالغ باهظة أجرة التنقل وتكاليف نصب العريشة (الخيمة) وشراء مستلزمات كثيرة أتركها خلفي دوما».
يضيف أبو علي الذي كان يملك محلا لبيع الملابس قبل أن تدمره الحرب «النزوح مواز لعذاب جهنم ولكن في الدنيا وليس الآخرة، ولذلك أنا وغيري نعتبر أنفسنا في مرحلة عذاب وعلينا تحملها، فإما أن ننجو جميعا أو بعضنا أو نغادر الدنيا إن لم يكن بالقصف فسيكون بالجحيم الذي نعيشه».
تتحدث إنعام زوجة أبو علي عن فقدانها الإحساس بالحياة والقدرة على التأقلم لأن الواقع أصعب بكثير من قدرة أي إنسان على التحمل بعد رحلة نزوح طويلة، لافتة إلى أنها تقاسي الأمرين منذ غادرت منزلها وتعجز عن تلبية طلبات أبنائها ليس تقصيرا منها وإنما لما تفرضه ظروف النزوح التي يمثل الحرمان عنوانا رئيسيا لها على حد قولها.
تقول إنعام «كرهنا كلمة النزوح أكثر من الحرب وإن كانت الأخيرة سببا في الأولى، لكننا نعتبر القصف أهون من إجبارنا على النزوح المستمر، وكأن الاحتلال ينفذ بحقنا إعدامات مستمرة وليس لمرة واحدة».
تشير الأم إلى ابنها الأصغر محمد بقدميه الحافيتين وملابسه الرثة وتقول إنها تعيش أسوأ كابوس يمكن أن تواجهه مع افتقادها لكل ما له علاقة باحتياجات البشر، وتؤكد أن الموت أهون من النزوح، وتستطرد قائلة «لكن الحفاظ على النفس البشرية من ديننا الإسلامي ولا يمكننا البقاء بأماكن القصف حتى لا نكون أقدمنا على الانتحار».
اقرأ المزيد
علاء مبارك يهاجم أولمبياد باريس