إذا أردت أن تبيع المناديل احك لهم قصصا حزينة
تقول الحكمة - التي ابتدعتها اليوم - لا يكفي أن تبيع المناديل لكن احك للناس قصصا حزينة أولا.
إذا أردت أن تصف المصريين بكلمة واحدة، فأعتقد أنها ستكون «عاطفيون»، فنحن شعب يتأثر بشدة في مختلف المواقف. وكما يقال: بكلمة حلوة تستطيع أن تأخذ عيني المصري.
في مترو القاهرة، تحديدا الخط الأول (حلوان - المرج)، أقضي يوميا نحو 25 دقيقة كل صباح ومثلها أو ما يزيد مساء في رحلة العودة من العمل.
في المترو الجميع يقف ممتعضا، والناس - خصوصا صباحا - يتبادلون نظرات الشك والريبة، تماما كما يحدث في الأسانسيرات (المصاعد)
وخلال هذه الدقائق التي قد تبدو - نظريا - قليلة بحسابات الطرق والزحام والمواصلات في مصر، يمكنني أن أرصد عالما كاملا من البشر والأشياء. عالم له طابع خاص، فكل فئات الشعب ممثلة في المترو: سيدة ريفية تجر ثلاثة من أبنائها قاصدة مستشفى حكومي، شيخ كبير بلحية بيضا وعكاز خشبي متآكل، يمضي إلى مكتب البريد لصرف المعاش، شاب أنيق ببدلة رخيصة يبدو وكأنه موظف في بنك.
في المترو الجميع يقف ممتعضا، والناس - خصوصا صباحا - يتبادلون نظرات الشك والريبة، تماما كما يحدث في الأسانسيرات (المصاعد).. لا أحد يعرف الآخر، لكن من يرى المشهد، يظن أن الرجل الضخم المتجهم ربما لديه ثأر مع المراهق إلى جواره الذي يسبح بوجهه في شاشة الموبايل.
فلننح العلاقات المتشابكة هذه جانبا، ولنركز مع الباعة المتجولين في عربات المترو
والآن، فلننح العلاقات المتشابكة هذه جانبا، ولنركز مع الباعة المتجولين في عربات المترو.. إذ أنني خلال 25 دقيقة فقط (المسافة الزمنية بين محطتي المعادي وجمال عبد الناصر) رصدت ستة باعة، لكل منهم أسلوبه وطريقته في فنون التسويق.
الأول، رجل يقترب من الأربعين، طويل بنحافة مخيفة، يمسك بين يديه ببعض من أعواد المسواك، ويقول: «أرضي ربك وطهر فمك.. سواك سنة عن النبي صل الله عليه وسلم».
يتجول الرجل بين المقاعد ويصيح: «وعندك كمان واحد هنا»، يقولها بينما لم يشتر منه - حتى اللحظة شيئا - لكنه يكرر الأمر، ويعاود تذكير الناس بفوائد المسواك، ويبرز بصوته الواضح أنه سنة عن النبي ومرضاة لله.
لم ينتظر البائع كثيرا، حتى أخرج رجل مسن شيئا من جيبه، ودسه في يد البائع الذي ناوله بدوره عود مسواك.. ثم توالت الطلبات، فباع صاحبنا خمسة أعود، قبل أن يسرع إلى بابا عربة القطار ليلحق بالعربة التالية.
الثاني أو - بالأحرى - الثانية، سيدة يفيض بياض وجهها على الطرحة السوداء التي تغطي بها شعرها، تقف في منتصف العربة ممسكة بكيس مناديل ورقية، وتتحدث بلهجة واثقة: «نفعني ولو بجنيه واحد بس.. .أنا أم لخمس عيال، منهم بنت في مستشفى الدمرداش محتاجة عملية».
الدموع تفور في عيني الفتاة، بينما السيدة تدعو لها بستر عرضها، وأن يحرم الله المرض على جسدها
لا تكاد السيدة تكرر كلامها، حتى تقترب منها طالبة بزي مدرسي مهندم، فتناولها ورقة نقدية. الدموع تفور في عيني الفتاة، بينما السيدة تدعو لها بستر عرضها، وأن يحرم الله المرض على جسدها.
وكأنها عدوة، تنهمر النقود المعدنية والعملات الورقية (من الفئات الصغيرة) على السيدة، التي تلملم ما جمعت من تبرعات سخية، وتمضي إلى العربة التالية.
الثالث، شابا في أواسط العشرينات، حاد الملامح والصوت، يضع على أرضية العربة حقيبة ويخرج منها علبة بسكويت، وينادي في الناس: «وافل.. أنا جايبلك النهارده وافل بسعر متحلمش بيه.. الواحدة تلات طبقات، بسكوت وشوكلاتة وكراميل، بخمسة جنيه بس.. تخيل يا مؤمن وافل تركي من اللي بيتباع في الكافيهات بخمسة جنيه بس بدل من 25.. ».
يمضي الوقت، يقترب القطار م التوقف ولا أحد يتقدم للشراء، لكن البائع يلجأ لأى حيلة أخيرة، «خد بالك ده تركي يعني مش مقاطعة»، فنستمع إلى همهمات، وسرعان ما تتوالى الطلبات «وأدي كمان واحد وافل للأستاذ هنا».
الرابع، رجل أربعيني بشعر مصبوغ، يمسك بلفافة بها العديد من الأحزمة وحافظات النقود، وينادي في الموجودين: «محفظة جلد طبيعي بعشرين جنيه بس».
يقترب منه شاب يتفحص المحفظة، ويسأل عن الألوان المتاحة، فيعطيه البائع حفنة من المحافظ ليختار منها، ثم ينادي: «محفظة جلد طبيعي بعشرين جنيه بس.. محفظة مضمونة».
يتهامس البعض، فيقول أحدهم إن سعر المحفظة مغر جدا، ويرد رفيقه: «حلو حتى لو تقعدلها تلات أربع شهور دي ببلاش».
الخامس، رجل ستيني بوجه ذي ملامح مريحة وشعر أبيض كثيف مع لحية تفيض على صدره، يمسك بين يديه ببعض المسابح، وينادي في الناس: «سبحة خشب عمولة بخمسة جنيه.. سبح ربك وهادي حبايبك بخمس جنيه بس».
ثلاثة رجال يقتربون من البائع، يتفحصون المسابح، أحدهما يحاول تقشير حبة من حبات المسبحة، ثم يمصمص شفتيه
ثلاثة رجال يقتربون من البائع، يتفحصون المسابح، أحدهما يحاول تقشير حبة من حبات المسبحة، ثم يمصمص شفتيه، ويدس يده في جيبه ليخرج عشرة جنيها، فيعطيه البائع مسبحة أخرى، وحين يتوقف القطار في المحطة يتهادى العجوز في خطوته شاقا جموع الواقفين أمام الباب للنزول وأولئك الواقفين على الرصيف.
السادس، رجل ثلاثيني يبدو رزينا يتحدث في ثقة، «معايا النوتة 100 ورقة مسطرة، اكتب فيها اللي تخاف تنساه.. مش هقولك بعشرين جنيه ولا بخمستاشر ولا حتى بعشرة.. النوتة أم سلك بخمسة جنيه بس ولا استغلال المحلات».
قبل أن يتوقف القطار في محطته التالية، كان الرجل قد باع سبع من «مفكرات الجيب»، معظمها اشتراه رجال تدور أعمارهم حول الخمسين.
استراتيجيات التسويق
هؤلاء الباعة يندر أن تجد بينهم من حصل على قسط وافر من التعليم الأساسي، ومع ذلك يمكنك أن تستند إليهم في إعداد بحث علمي أو رسالة ماجستير يتناول استراتيجيات التسويق.
إذا درست جيدا أساليبهم في البيع واستمالة الزبائن ودفعهم للشراء، ستجدهم يركزون على «الاحتياج العاطفي» أكثر من أي دافع آخر، فأنت تدفع جنيهات بسيطة لأسباب تتعلق بما تؤمن به سواء دينيا أو أخلاقيا، كما في حالة المسواك (سنة)، وكما في حالة مساعدة المرأة التي تحاول جمع تكاليف عملية ابنتها «المزعومة».
أما في حالة بائع الوفل، فالرجل يخاطب فيك روح «القناعات والمبادئ التي تؤمن بها».. ادعم منتج لا يندرج تحت بند المقاطعة.
وتلك التي تطلب منك أن تتبرع لها ولو بجنيه، لعبت ولو دون قصد دور شركات التسويق الكبرى، التي تلجأ إليها الجمعيات والجهات الخيرية الكبرى، التي تزرع داخلك إحساسا بأنها تقدم لك فرصة عظيمة لعمل الخير مقابل مبلغ زهيد للغاية. هي هنا تقدم لك «أوفر» قد لا تجده في مكان آخر.
وبقراءة الحالات المذكورة، ستجد أن العاطفة هي الدافع الكبير وراء كل عمليات الشراء التي تمت، فهذا يشتري مسواك ليس لأنه يحتاج إلى هذا العود في حد ذاته، ولكن يحتاج إلى ما يمثله هذا الشيء من معان وقيم دينية.
وكذلك الأمر لمن يشتري الوفل أو من يعطي جنيها لبائعة المناديل.. و..
لهذا كله، فإذا كنت تريد أن تبيع المناديل، فلابد وأن تحكي للزبائن قصصا حزينة.