الأزمة الاقتصادية تستعيد هيبة «ماكينة الخياطة» في البيوت السوريّة
بين قطع الملابس والقصاصات المتناثرة، تجلس الستينية السورية أم جابر في غرفة داخل منزلها بمدينة جرمانا شرق العاصمة السورية دمشق خلف ماكينة خياطة يدوية، منهمكة في إدخال خيط من ثقب إبرة لتصنع ثوبا لإحدى جاراتها في المنطقة.
لم تكن أم جابر تشتغل بهذه المهنة قبل عام، لكنّها اضطرت لإخراج ماكينة الخياطة التي ورثتها عن أمها ومسح الغبار عنها، لتبدأ العمل عليها بهدف جني بعض المال من أجل تحسين أحوال أسرتها المعيشيّة.
تحدّثت أم جابر لوكالة أنباء العالم العرب عن كيفيّة تحوّل الخياطة في حياتها من مجرد هواية إلى ضرورة ملحّة، بعد أن استفحلت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادها.
وقالت «أعمل لإعالة أسرتي ومساعدة زوجي في نفقات المنزل، ولا شكّ أنّ عملي بهذه السن مرهق وبالغ الصعوبة، إذ يتطلّب الأمر جهدا بصريّا وبدنيّا وفكريّا أحيانا، لكنّه يعود بمردود جيّد.التعب يهون أمام الحاجة والفاقة التي قد نقع فيها».
وتقبل نساء سوريّات على مهنة الخياطة، سواء ضمن المنزل أو في ورش خاصة، بهدف تأمين مصدر دخل لهن ولعائلاتهن في ظل الظروف المعيشيّة وتدني الوضع الاقتصادي، وبهدف الاعتماد على أنفسهن ورغبة في توفير الملابس لذوي الدخل المحدود بعد الغلاء الكبير في أسعار الملابس الجاهزة.
إصلاح القديم بديلا
السوريّة نادرة عبد الباقي، التي لجأت إلى العمل في تفصيل الملابس الجديدة وإصلاح القديمة من منزلها قبل سنوات قليلة، أوضحت بدورها أن عملها اليوم تضاعف، حيث قالت إن النّاس يفضّلون دفع 100 ألف ليرة (حوالي 6.7 دولار أميركي) لتصليح ثوب قديم بدلا من شراء جديد بسعر لا يقل عن 400 ألف.
وأوضحت أنّ هناك أشخاصا يعمدون إلى تصليح ملابس أطفالهم القديمة لتُناسب الأطفال الجدد الذين يولدون في العائلة، مشيرة إلى أنّ بعض الأشخاص يفضلون أيضا تفصيل الملابس لدى الخياطين بدلا من شرائها جاهزة بثمن أعلى.
وضربت عبد الباقي مثلا بالقميص النسائي المصنوع من قماش الجوخ، والذي يصل ثمنه إلى 500 ألف ليرة في المحال التجارية بينما تصل تكلفة تفصيله بالكامل إلى 200 ألف ليرة فقط. وقالت إنّ سعر الفستان النسائي الطويل يصل إلى 700 ألف ليرة، في حين تبلغ تكلفة تفصيله 225 ألفا.
وتبيّن نادرة أنّ حياة أسرتها تغيّرت بعض الشيء بعدما باشرت العمل، قائلة إن "الخياطة المنزليّة مهنة تجني الأرباح بشكل معقول، صحيح أنّها تحتاج وقتا وجهدا، لكن أرباحها جيّدة وتبقى أفضل بكثير من الوظائف الحكومية وغيرها".
ولم يعد الحد الأدنى للأجور في سوريا، البالغ 278 ألفا و910 ليرات، مقبولا به بين الموظفين السوريين في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة من إيجار المنازل وغلاء أسعار المواد الأساسية.
علا قضماني (40 عاما)، وهي موظّفة حكوميّة منذ 15 عاما، تقصد ورشة صغيرة لصناعة الملابس في منزل إحدى الخيّاطات المتمرسات في حيّ الفاروق بالمدينة بعد نهاية دوامها في مديرية الصحّة بطرطوس.
تعمل علا لعشر ساعات متواصلة على ماكينة خياطة، لتحصل شهريا على راتب قدره 600 ألف ليرة، وهو ما يزيد عن راتبها الوظيفي. ورغم إدراكها أنّ العمل بأكثر من وظيفة يُنهك المرء، فإنها مضطرة لذلك بعد أن وجدت نفسها تحصل على راتب تدهورت قيمته وسط ظروف معيشية قاسية.
معاناة توفير لقمة العيش
وقالت علا في حوار أجرته معها وكالة أنباء العالم العربي "أعيش معاناة حقيقية حتى أستطيع أن أحصل على لقمة عيشي، فأنا مسؤولة عن تربية أربعة أطفال أكبرهم في عمر 17 عاما منذ أن توفي زوجي قبل ثلاث سنوات".
وظهرت في السنوات الماضية عدّة منظّمات وجمعيّات اهتمت بتمويل المشاريع الصغيرة وتهيئة الكوادر بالمهارات المطلوبة كالخياطة وحياكة الصوف وغيرها، بهدف تدريب بعض النساء المعيلات وإكسابهن مهنة يستطعن من خلالها العمل والإنتاج والاستغناء عن المساعدات الإغاثية وتحقيق الاستدامة الذاتيّة للأسر.
وتعدّ هذه المشاريع محاولات لسدّ فجوة كبيرة من الاحتياجات، إذ يعيش ما يقارب 90% من السوريين تحت خط الفقر بحسب الصليب الأحمر، وهناك 15.3 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانيّة.
رقيّة كانت واحدة من النساء اللاتي استفدن من هذه الورش، ما ساعدها على تأمين دخل مادي لها يُعينها في حياتها اليوميّة وتوفير الدواء لطفلها الذي يعاني مرضا في القلب.
وقالت رقيّة في حديث لوكالة أنباء العالم العربي «كنت أريد أن أحمي عائلتي من الجوع، فاستدنت مبلغا من المال وقررت أن أتعلّم تفصيل الملابس من خلال ورشة تدريب في إحدى الجمعيّات برسم 500 ألف ليرة، كما اشتريت آلة خياطة وبدأت العمل عليها من المنزل».
أضافت «نصحتني مدرّبة الخياطة بأن أُتقن خياطة ملابس الأطفال، وهو ما احترفته حتى باتت قطع الملابس التي أصنعها تنافس في الجمال والجودة الألبسة الجاهزة».
وأنشأت رقيّة حسابا خاصا بها على تطبيق (إنستغرام)، حيث بدأت بتصوير أعمالها ونشرها، لتنهال عليها الطلبات والتوصيّات. قالت «ساعدتني الصفحة كثيرا على الانتشار، وجميع من يأخذ من عندي طلبيّة معيّنة، يصبح زبونا دائما بفضل الله».
وقالت إحدى مشرفات ورشة الخياطة بمدينة دوما في ريف دمشق طالبة عدم ذكر اسمها إن هذه الورش تزداد باستمرار مع إقبال النساء على التعلّم والعمل «لتتمكن كل امرأة، وخاصة غير الحاصلات على مؤهلات علميّة، من الاعتماد على نفسها للحصول على معيشة أفضل وتعلُّم مهنة تحميها من الحاجة وضيق العيش».
اقرأ المزيد:
سعر الدولار أمام الجنيه المصرى اليوم السبت 27-4-2024