هل تنجح قرارات بنك السودان المركزي في كبح تدهور الجنيه؟
في قرار يهدف إلى تحجيم تداول النقود ومواجهة التدهور المستمر للعملة السودانية جراء الصراع الدائر في البلاد منذ أكثر من عام، أعلن بنك السودان المركزي وضع سقف للسحب اليومي للأموال من البنوك ورفع سقف التحويلات عبر التطبيقات المصرفية، في خطوة انقسم حولها خبراء الاقتصاد بين من يراها إيجابية ومن يعتبرها سلبية.
وأعلن محافظ بنك السودان المركزي برعي الصديق في تصريحات صحفية يوم الأربعاء أن البنك حدد سقف السحب اليومي عبر البنوك عند ثلاثة ملايين جنيه (حوالي 2390 دولارا بالسعر الرسمي) يوميا، والسحب عبر ماكينات الصرف الآلي عند 50 ألف جنيه يوميا. كما قرر البنك المركزي رفع سقف التحويلات عبر التطبيقات المصرفية إلى 15 مليون جنيه يوميا، بدلا من ستة ملايين جنيه في السابق.
وأوضح محافظ المركزي السوداني أن القرار يهف إلى وقف التدهور المستمر لقيمة الجنيه مقابل العملات الأخرى، وعزا هذا التدهور إلى عدة عوامل من بينها توسع البنك في إقراض وزارة المالية. وأكد برعي على أن وزارة المالية فقدت معظم إيراداتها، مما جعل البنك المركزي يتحمل مسؤولية الصرف وحده نيابة عنها، مشيرا إلى إغلاق حسابات في عدد من البنوك يعتقد أنها تضارب في العملة بالسوق الموازية.
ويعاني الجنيه السوداني من هبوط كبير مستمر مقابل العملات الأجنبية بسبب الصراع الدائر في البلاد، حيث ارتفع سعره مقابل الدولار في السوق الرسمية إلى 1255 جنيها للدولار، بينما يصل في السوق الموازية إلى 1800 جنيه للدولار. وتباينت آراء الخبراء والمحللين الاقتصاديين بشأن قرار البنك المركزي تحديد سقوف للسحب النقدي بهدف السيطرة على النقد خارج القطاع المصرفي، فمنهم من يرونه خطوة «فاشلة» ومنهم من يعتبرونه قرارا «سليما».
ويرى الخبير والمحلل الاقتصادي وائل فهمي، عضو اللجنة الاقتصادية في الحكومة الانتقالية السابقة برئاسة عبد الله حمدوك، أن مثل هذه القرارات تتخذ منذ عهد نظام الرئيس السابق عمر البشير وحتى إبان الفترة الانتقالية لما قبل بداية الحرب، وكانت النتيجة "وبالا" على القوة الشرائية الداخلية والخارجية للجنيه.
محلل: قرار بنك السودان المركزي خطوة «فاشلة»
في مقابلة مع وكالة أنباء العالم العربي (AWP)، وصف فهمي خطوة البنك المركزي بأنها تكرار لنموذج القرارات «الفاشلة»، مشيرا إلى أن البنك كان قد أصدر قرارا مشابها في أكتوبر تشرين الأول 2023 بإلزام جميع المصارف بخفض سقف التحويل بين الحسابات على التطبيقات المصرفية. وأوضح أن قرار أكتوبر الماضي ينص على ألا يتجاوز سقف التحويل للعملاء المميزين خمسة ملايين جنيه يوميا، بحد أقصى يبلغ مليوني جنيه في الحركة الواحدة وبسقف شهري 100 مليون، بينما يصل سقف التحويل للعملاء العاديين إلى ثلاثة ملايين جنيه يوميا، بحد أقصى مليون جنيه في الحركة الواحدة وبسقف شهري 50 مليونا.
وتابع «لقد كان الهدف أيضا إيقاف التدهور في القوة الشرائية للجنيه السوداني، ومن ثم استقرار أسعار السلع والخدمات، وبالتبعية استقرار سعر الصرف». وأشار إلى أنه مع غياب مؤشرات التضخم الرسمية منذ بداية الحرب الحالية في منتصف أبريل نيسان 2023، وهيمنة السوق الموازية على سوق النقد الأجنبي بالبلاد، كان سعر الصرف في منتصف أكتوبر تشرين الأول من العام الماضي يبلغ حوالي 890 جنيها للدولار، وبنهاية ذلك الشهر وصل إلى 990 جنيها للدولار.
وبحسب المحلل المالي، بلغ سعر الصرف بالسوق الموازية قبل قرار المركزي الأخير إلى 1800 جنيها للدولار، بارتفاع نسبته 82% في أقل من عام، مما تطلب على ما يبدو تجديد القرار بسقوف أعلى خاصة في ظل تدهور مستويات الأسعار بمختلف الأسواق وتردي سعر الصرف، وفق تعبيره. واعتبر فهمي أن تكرار القرار نفسه، وإن كان بسقوف جديدة، وبذات الغرض المتمثل في تنظيم خدمات السحب والتحويل بالمصارف لن يحقق أبدا الهدف المعلن لاسيما إيقاف تدهور القوة الشرائية الداخلية للجنيه مثلما صرح محافظ البنك المركزي.
ولفت إلى أن الهدف الذي أعلنه المحافظ «غير منطقي إطلاقا» في ظل استمرار الحرب وهيمنة وزارة المالية على بنك السودان المركزي الذي أصبح الممول الرئيسي لإيرادات الخزينة العامة بعد انهيار حصيلة الصادرات وتآكل القاعدة الضريبية بسبب التدمير المستمر للقاعدة الإنتاجية وبناها التحتية. كما أشار الخبير إلى ضعف المعونات والمساعدات الدولية وهروب رؤوس الأموال والقوة العاملة، فضلا عن اتساع نطاق تهريب السلع إلى الخارج للحصول على عملات أكثر استقرارا من الجنيه السوداني، في ظل هيمنة السوق الموازية على سوق النقد الأجنبي.
وتابع «هذا يعني أنه وبحكم تجربة تنفيذ القرار المماثل له في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وفي ظل هيمنة المالية على البنك المركزي وهيمنة السوق الموازية على سوق النقد الأجنبي، واتساع دائرة الحرب ومتطلبات الصرف عليها، ومع ارتفاع متواصل في أسعار السلع والخدمات، فإنه يستحيل إيقاف التدهور في القوة الشرائية الداخلية والخارجية للجنيه السوداني».
وأردف بالقول «سيستمر الجنيه في التدهور مع انكماش القاعدة الإنتاجية، سواء بالتدمير العسكري أو بهروب رؤوس الأموال أو تدميرها وفرار المواطنين أو طردهم من مناطق الإنتاج»، معتبرا أن ما يذكي هبوط الجنيه بالأساس ليس فقط الاستمرار في تمويل المجهود الحربي بل كذلك تواصل شح معروض السلع والخدمات بالسوق.
ويقول فهمي «في مثل ظروف هذه الحرب المتعطشة للمال وهيمنة المالية على البنك المركزي، فإنه لا توجد أي حلول يمكن اقتراحها سواء بالقضاء على المضاربات التي تتفشي في مثل تلك الأوضاع، أو بالقضاء على السوق الموازية للعملات الأجنبية أو فوضى الأسواق، أو تنظيم الأسواق أو تحسين كفاءة إدارة الموارد العامة وغيرها، إلا بإنهاء الحرب تماما وتصفية آثارها اللاحقة، فحينها سيكون لكل حدث حديث يناسبه».
وأوضح أن تجارب الدول التي مرت بظروف حروب مماثلة في السابق تظهر أنه كانت هناك دائما سياسات ضبط لأسعار السلع والخدمات بالأسواق خاصة الضرورية منها وترشيد الاستهلاك لعموم المواطنين، مع رقابة صارمة لحركة البضائع بين المناطق المختلفة، بما يساعد في إيقاف تدهور القوة الشرائية الداخلية للجنيه. وأكد أنه حتى إذا لجأ المركزي لإغلاق حسابات بعض كبار عملاء البنوك، فإن ذلك القرار لن ينجح مثل القرارات السابقة نظرا لأن 90%منها حسابات غير نشطة.
وأرجع فهمي عدم نجاح مثل هذا القرار أيضا إلى أن تقليص السحب النقدي من المصارف وزيادة مبالغ التحويلات اليومية ومعاملات التطبيقات المصرفية لإبقاء السيولة داخل الجهاز المصرفي والحيلولة دون انهياره لن يشجع المواطنين على الإيداع، خاصة بعد فقدان الثقة في حماية أموالهم بعد نهب تلك المصارف في 12 ولاية تشهد معارك مستمرة. ومضى قائلا «في ظل الحروب تزداد دوما قوة عدم اليقين وعدم الثقة بمناخات الاستقرار (المؤقت) خاصة بالمناطق الآمنة لدى المواطنين المدنيين، لذلك فإن إدراك طبيعة المرحلة هي واحدة من أسباب النجاح دوما، وعدم مراعاتها سيؤدي إلى الفشل كما قد حدث للقرارات السابقة».
الجنيه السوداني سيعود إلى المصارف
أما المحلل الاقتصادي مزمل الضي فيرى أن قرار البنك المركزي «سليم»، كونه يهدف إلى تشجيع العملاء والمواطنين على استخدام التطبيقات البنكية والحسابات المصرفية وإيداع أموالهم بكل سهولة ويسر.
وأضاف في حديثه مع وكالة أنباء العالم العربي "نتحدث هنا من الناحية الاقتصادية، فبنك السودان يريد أن يحافظ على الكتلة النقدية المتبقية في الجهاز المصرفي، لأنه كما هو معلوم بسبب الحرب وتعرض البنوك للنهب داخل الخرطوم والولايات الأخرى فقدنا جزء كبيرا من حجم الكتلة النقدية التي كانت متداولة، مما أثر على حجم السيولة الموجودة في السوق".
وذكر الضي أن السماح بإجراء عمليات سحب لمبالغ كبيرة دون تحديد سقف من قبل بنك السودان المركزي من شأنه أن يؤدي إلى شح الأموال بالسوق، وبالتالي سيحدث خلل كبير كما حدث في أوقات سابقة.
وأوضح أن ذلك من شأنه أيضا أن يدفع المواطنين إلى اكتناز العملات، إذ سيسعون في ظل حالة الهلع والخوف على أموالهم إلى سحب كل هذه الأموال التي يرونها في وضع غير آمن واستبدالها بعملات أجنبية أو ذهب وغيره، مما سيفاقم تدهور العملة المحلية. وأكد المحلل الاقتصادي أن «قرار بنك السودان من شأنه أن يشجع على الادخار وإيداع الأموال، ويساعد على استقرار العملة المحلية، فضلا عن مساهمته في خفض التضخم. وأوضح قائلا "عندما أحدد سقفا معينا، أستطيع تقليل حجم الاستهلاك الكلي، خاصة ونحن في فترة نستورد فيها معظم المنتجات والخدمات والسلع من الخارج».
وأضاف «القرار وضع في الاعتبار أن من أسباب تدهور العملة السودانية زيادة الطلب على النقد الأجنبي من قبل السياح والموردين والتجار، والبنك المركزي يريد الحد من هذه الإشكالية لتقليل كمية الطلب العالي على النقد الأجنبي عن طريق تقليل السحب النقدي من داخل البنوك، الأمر الذي يشجع ما يسمى بمفهوم الشمول المالي، أي إدخال معظم المواطنين في مظلة البنوك، لأنه يقلل التعامل النقدي الذي يكلف الدولة كثيرا من طباعة سنوية للنقود التي تتعرض للتلف». كما اعتبر الضي أن هذا القرار أيضا «يشجع المواطن على سهولة الترحال من مكان إلى آخر من خلال التطبيقات البنكية ويقلل نسبه تعرضه لمخاطر النهب في بلد يعاني من انعدام الأمن».
السودان يعاني من صعوبة تصدير السلع
قال إن الدولة تعاني من صعوبة تصدير السلع خاصة في ظل تدني الإنتاج بسبب توسع الحرب إلى ولايات أساسية في إنتاج المحاصيل كانت تجلب النقد الأجنبي للدولة مثل الجزيرة في وسط البلاد وكردفان ودارفور في الغرب، مما تسبب في عدم الاستقرار بتلك الولايات التي وقعت في قلب المعارك الضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع. واستطرد قائلا «فقدنا الإنتاج بنسبة 90%، وأصبحت وزارة المالية تستدين من بنك السودان المركزي لتغطية نفقات الدولة اليومية، خصوصا في ظل استمرار الحرب ومتطلباتها». كما أشار إلى أن الموازنة الآن هي موازنة حرب، وأن الحكومة فقدت الكتلة النقدية بالبنك المركزي، مما ساهم في انخفاض العملة السودانية وبالتالي ارتفاع الطلب على النقد الأجنبي، موضحا أن هذه كلها عوامل ساعدت على زيادة التضخم في السوق.
وتسيطر قوات الدعم السريع على المقر الرئيسي لبنك السودان المركزي في الخرطوم منذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم.
ودعا الضي إلى تشجيع قرار بنك السودان بتسهيل إيداع الأموال وفتح حسابات الادخار برسوم رمزية وتوفير شبكات اتصال قوية حتى يتمكن الناس والتجار من التعامل عبر التطبيقات البنكية وتحويل أموالهم بيسر من مكان لآخر. وأردف بالقول «بعد الحرب فقدنا حوالي 50%ن المستثمرين ورجال الأعمال، وعلى الحكومة تشجيعهم على إعادة فتح الشركات والمصانع والتي تساهم في توفير الأمن الغذائي الداخلي أو الاكتفاء الذاتي من المنتجات الغذائية للمساعدة في تقليل الواردات من الخارج مثل الزيت والشاي والدقيق (الطحين) وغيرها من المنتجات التي كانت تصنع محليا، وذلك عبر توفير الأراضي ومدخلات الإنتاج في الولايات الآمنة نسبيا من الخارج وتخفيض الضرائب».
لكنه اختتم حديثه بالقول «في ظل الضرائب العالية التي تفرضها الحكومة ترتفع تكلفة الإنتاج والأيدي العاملة مما يزيد من أسعار المنتجات، لذلك يبحث المستثمرون السودانيون عن أسواق جديدة في دول الجوار أقل تكلفة من ناحية الإنتاج والعمالة».
واندلع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على نحو مفاجئ في منتصف أبريل نيسان 2023 بعد أسابيع من التوتر بين الطرفين، بينما كانت الأطراف العسكرية والمدنية تضع اللمسات النهائية على عملية سياسية مدعومة دوليا.
اقرأ المزيد:
أسعار النفط مستقرة.. الأسواق تترقب اجتماع «أوبك بلس»