مأساة الطفل «ريان» وأصناف البشر
المآسي تصنع الوعي، والخسائر تكسب الخبرة، وقصة الطفل المغربي «ريان» وسقوطه في بئر عميقة حتى وفاته رحمه الله على الرغم من مأساويتها وألمها إلا أنها من اللحظات التي تكشف معادن الناس وأصناف البشر.
التعاطف مع الطفل وعائلته طبق الآفاق وتحوّلت الشعوب العربية إلى متابعة كل تفاصيل عملية الإنقاذ الصعبة والمعقدة مع دعواتٍ حارةٍ بنهاية سعيدة للطفل ولعائلته، وهذا موقف إنسانيٌ راقٍ ومشاعر طبيعية جيّاشةٌ، وقدمت بذلك المغرب كل الجهود الممكنة، ووفرت كل الإمكانيات والآليات والمتخصصين وأدارت الأزمة باحترافية، وكان الهلال الأحمر الإماراتي حاضراً للمساعدة والدعم في هذه اللحظة الإنسانية الغامرة حتى وقع أمر الله ونفذ قضاؤه.
في البشر خيرٌ وشرٌ، وقد كشفت مأساة الطفل «ريان» عن صنوف من البشر غلب فيها الشر على الخير وساعدها الاختفاء خلف «أسماء وهمية» في مواقع التواصل الاجتماعي عن إظهار ذلك الشر والتعبير عنه، وهم فئة قليلةٌ بالتأكيد، ولكنها موجودةٌ.
من هذه الفئة من عبّر عن أنه كان سيتعاطف أكثر فيما لو كان «الطفل» من بلده، ومنهم من تحدث عن أن أطفال البلد «الفلاني» يتعرضون للقتل والدمار ومنهم من سعى لاستغلال المأساة لأغراضٍ سياسيةٍ أو أيديولوجيةٍ أو شخصيةٍ، وهذه المواقف الكاشفة تحتاج إلى تعليق وتذكير بأسس الأخلاق ومبادئ الإنسانية قبل أن تتلوث.
القسوة وحدها وانعدام الإنسانية تبعث البعض على مثل هذه المواقف، وليس من الإنسانية في شيء أن يخف تعاطفك مع طفل في سنوات عمره الأولى أنه من هذا البلد أو ذاك، ولا يعني التعاطف مع حالة الطفل ومأساته أن العالم خالٍ من المآسي، ولا أن الناس لا تتعاطف مع قتل الأطفال وظلم الضعفاء وقهر الناس، هذا أمرٌ آخر تماماً، أما محاولات التوظيف السياسي والأيديولوجي والشخصي لهذه المأساة فهي عيبٌ لدى هذه الفئات في بنية العقل والأخلاق والدين.
الخلافات السياسية لا تنفي الأخلاق الإنسانية، وفي نصوص الأديان والفلسفات وفي أعراف البشر وتقاليد الناس وفي القوانين الدولية والمحلية ما يُسهل الفصل بين الأمرين، والحرب العسكرية الخشنة وهي أقسى لحظات الصراعات البشرية لها قوانين تضبط «جرائم الحرب» وتعاقب عليها، والشعب الجزائري تعاطف بمشاعره مع هذه المأساة الإنسانية كتصرفٍ إنسانيٍ طبيعي. المآسي تعين على بناء الوعي وتفضح الخطابات المتطرفة، وحين يتساءل البعض لماذا تصنّف جماعات الإسلام السياسي إرهابيةً؟
فالجواب هو أنها شحنت أفكار أتباعها بأيديولوجية متطرفةٍ لا تقيم اعتباراً للأخلاق ولا للإنسانية ووصلت في بعض أفكارها للتحريض على «التوحش» والتحريض على قتل المدنيين والضعفاء والأطفال بأبشع الطرق وأشنع من هذا أن تقول إن من يرتكب تلك الجرائم إنما يفعلها اتباعاً لأمر الإسلام وطلباً لمرضاة الله، وهذه بشاعةٌ تفوق تصوّر البشر الأسوياء. «التفجيرات الانتحارية» و«الصواريخ» و«المسيرات» التي تستهدف المدنيين والأعيان المدنية إنما يخطط لها ويتبناها هؤلاء «المتوحشون» تحت شعارات خدمة الدين والإسلام والعقيدة والمذهب، والدين إيمانٌ وأخلاقٌ وإنسانيةٌ وليس أداة قتلٍ وتخريبٍ ودمارٍ.
متابعة الناس في وسائل التواصل الاجتماعي لمأساة الطفل «ريان» هو تعبيرٌ عن موقفٍ إنسانيٍ طبيعيٍ ونبيلٍ، ولكن بعض المهووسين بهذه «السوشلة» اختلطت لديه الأولويات فأصبح لا يرى في مثل هذه المآسي إلا «سعة الانتشار» و«زيادة المتابعين» و«الشهرة» ويمكن لمن يريد فكرةً أوضح عن هذه الفئة متابعة الفيلم الهوليوودي الجديد «لا تنظر للأعلى» ليجد النماذج الصارخة لمثل هذا الانحراف في الإنسانية والأخلاق الذي قد تدفع له «وسائل التواصل الاجتماعي». أخيراً، فالمآسي تدفع للتفكير في منع مثيلاتها مستقبلاً بالوعي والأخلاق وبالقوانين التي تمنع وتحمي وتردع.